من أكثر الأسئلة التربوية حضوراً اليوم سؤال الثبات والتراجع، وذلك لوجود عدد من العوامل التي أفضت إلى تساقط البعض وتراجع آخرين.
ويأتي في مقدمة هذه العوامل: ضعف الإيمان في القلب، ومنها – أيضاً – قوة الفتنة المعروضة اليوم على شباب الإسلام؛ من دعوات إلى الانحلال والإلحاد واللهو والرذائل ونبذ الإسلام وعبودية الشهوات والملذات.
ومن هذه العوامل – أيضاً – الدعوة إلى سلطنة العقل على النصوص الشرعية، بشكل وبآخر، والتزهيد في تراثنا الإسلامي الرصين، والدعوة إلى إعادة تفسيره.
وتجد هذه الدعوات احتفاء ودعماً لا يخفيان على ذي بصر. وليس المقصود هنا تتبع هذه المسألة، وإنما أردت الإشارة إلى أنَّ هذه العوامل – وغيرها – مجتمعة أفضت إلى زعزعة داخل الصف الإسلامي، تساقط فيه البعض وتراجع فيه آخرون.
والحق أنَّ ثلةً بقيت متمسكة بهويتها محافظة على هديها مستقيمة على دينها، وهي تجاهد نفسها تارة، وتارة تجاهد كل هذا المكر الذي يحف بها بغية تحطيم قلاع الإيمان في وجدانها وسلوكها، والله وحده المسؤول أن يحفظ علينا إيماننا وأنْ يثبتنا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة.
في هذه التدوينة أحب أنْ أشير إلى عامل استراتيجي من عوامل التثبيت على دين الله تعالى، عامل واحد لكنه الأقوى والأعمق تأثيراً. وهو عامل ارتضاه الله تعالى لتثبيت نبيه صلى الله عليه وسلم أمام ما يواجهه من محاولات القوم لحرفه عن البوصلة الرسالية:
﴿وَكَذَٰلِكَ جَعَلۡنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّٗا مِّنَ ٱلۡمُجۡرِمِينَۗ وَكَفَىٰ بِرَبِّكَ هَادِيٗا وَنَصِيرٗا ٣١ وَقَالَ ٱلَّذِينَ كَفَرُواْ لَوۡلَا نُزِّلَ عَلَيۡهِ ٱلۡقُرۡءَانُ جُمۡلَةٗ وَٰحِدَةٗۚ كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِۦ فُؤَادَكَۖ وَرَتَّلۡنَٰهُ تَرۡتِيلٗا ٣٢﴾[الفرقان:31-32].
هو عامل الزمن المتمدد الذي يستغرقه الجهد التربوي.
لاحظ العبارة السابقة جيداً: زمن يتمدد، وتتخلله جهود التربية.
هكذا أراد الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم أنْ يتربى، وهكذا أراد الله تعالى لصدر الأمة أنْ يتربى.
ولذلك حين اقترح المشركون أنْ ينزل القرآن مرة واحدة في كتاب، نبّه القرآن على أنَّ هذا المقترح يتنافى مع ناموس التربية، والذي من طبيعته: وقت طويل وتوجيه متفرق خلال هذا الوقت الطويل.
في معنى الترتيل في قوله تعالى: (ورتلناه ترتيلاً) قال ابن جرير: تنزيله عليك الآية بعد الآية والشيء بعد الشيء [التفسير 17/444]. وقال ابن عطية: الترتيل التفريق بين الشيء المتتابع، ومنه ترتيل القراءة [المحرر الوجيز 4/209]. وقال السعدي: مهَّلناه ودرجناك فيه تدريجاً [التفسير 1/582].
إذاً الترتيل هنا هو سرُّ التثبيت (لنثبت به فؤادك)، أيْ أنَّ ترتيل القرآن بمعنى تفريقه وتدريجه وتنزيله في وقت أطول هو الذي يجعل من التربية أقوى أثراً وأعمق تأثيراً، وقد استغرق نزول القرآن ثلاثاً وعشرين سنة، منذ مبعثه صلى الله عليه وسلم إلى قبل موته، وعلى هذا الفهم كان أهل العلم، ثم فرعوا عليه بعض المعاني المهمة.
قال ابن جريج: لنصحح به عزيمتك ويقين نفسك، ونشجعك به [تفسير الطبري 17/446]. وهنا التفاتة إلى بعض مظاهر التثبيت، وهي تصحيح العزيمة وتقوية اليقين وتحفيز النفس بـ(الترتيل).
وقال الواحدي: كذلك أنزلناه مفرقاً لنقوي به قلبك فيزداد بصيرة، وذلك أنه إذا كان يأتيه الوحي متجدداً في كل أمر وحادثة كان ذلك أزيد في بصيرته وأقوى لقلبه [التفسير الوسيط 3/340]. فأنت تقرأ في كلام الواحدي التجدد في مسيرة التربية، فلا يعني (الترتيل) أو (الزمن الذي تستغرقه التربية) أن يكون آسناً جامداً، بل تتجدد فيه التربية بحسب المستجدات.
والشوكاني يشير إلى تأثير (الترتيل) في تشكيل المفاهيم وتجلية التصورات من الغبش، فيقول: فإن إنزاله مفرقاً منجماً على حسب الحوادث أقرب إلى حفظك له وفهمك لمعانيه، وذلك من أعظم أسباب التثبيت [فتح القدير 4/85]. وما ذكره الشوكاني والواحدي مهم في إيضاح نقطة مركزية، وهي أنَّ طبيعة التعليم تتطلب وقتاً كافياً لتحقيق الغاية منه، إذ لا تكتمل صورة المفهوم في أول الأمر، بل مع مرور الزمن يزداد المفهوم وضوحاً لأهمية تراكم الخبرات التعليمية في إيضاحه.
من كل ذلك يتشكل قانون الثبات في التربية الإسلامية: مدة زمنية تطول، وتستغرقها الجهود التربوية. وبالتالي لا معنى لتحديد زمن التربية في مجتمع ما بسنة أو سنوات قلائل، ولا معنى لتوقعنا بتحول هائل في المجتمع جراء الجهود التربوية في وقت قصير، فلربما استغرقت التربية عقوداً من الزمن أو أجيالاً، وقد قص القرآن علينا أن تربية قوم موسى عليه السلام استغرقت عشرات السنين، وما استطاعوا القيام بالمهام الرسالية المطلوبة منهم إلى بعد أنْ قضوا أربعين سنة يتيهون في الأرض، وقد توفي في هذه المرحلة إمام دعاتهم موسى عليه السلام، وما فتح يوشع بن نون الأرض المقدسة إلا بعد ذلك التيه، في مشهد مهيب وقف فيه الزمان حين وقفت الشمس عن حركتها قبل الغروب، حتى إذا فتح الله عليهم استأنفت مسيرها وغربت. فكم كانت أعمار يوشع بن نون والذين معه في فتح بيت المقدس حين دخلوا في التيه؟ بل كم كانت أعمارهم حين نجى الله تعالى بني إسرائيل من فرعون في العاشر من محرم؟ وكم جيلاً استغرقت التربية في بني إسرائيل حتى أصبحوا – بشكل عام – على قدر من المسؤولية الرسالية يمنحهم الفتح؟
وكذلك كان أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ، فكم كان بين مبعثه وبين إدانة الجزيرة العربية له؟
إنَّ التربية رحلة مضنية، تطوي السنين والأجيال، حتى تصل إلى غاياتها الحقيقية، وليست نزهة مؤقتة ينتظر فيها المربون نتائج غرسهم. إنها الزمن الطويل والاجتهاد طوال هذا الزمن الطويل. لا يكفي أنْ نعلم أننا بحاجة إلى زمن طويل، بل علينا أنْ نعي أنه يلزمنا جهود مضاعفة خلال هذا الزمن الطويل.. جهود في الإدارة، وجهود في التخطيط والتدبير، وجهود في التنفيذ والمثابرة، وجهود في فهم ما نقوم به وفي فهم ما نعيشه من واقع.
تالله إنَّ السنين والعقود من السنين إنْ بذلنا فيها نفيس أوقاتنا وربيع أعمارنا وحر أموالنا، تربية على دين الله، ودعوة إلى الله فستنتج لنا الأشخاص الثابتين، الذين صقلتهم تربية القرآن الطويلة، وعركتهم منعطفات الحياة المتنوعة، فعرفوا حقيقة الدنيا وعرفوا حقيقة الإسلام، فازدادوا إيماناً ويقيناً، بل ستنتج لنا المجتمع الثابت الذي يقوم بالدفاع عن دينه ونشر دعوته. هذا أثر الترتيل!
ترتيل التربية وافتراض الزمن الطويل المملوء بالجهود التربوية هو القانون الذي لا تخسر فيه الحسابات، ولا تنحرف به الطريق، فلماذا نستعجل نتائج التربية إذن! ولماذا نظن أنَّ للتربية زمناً قصيراً ننتظر انقضاءه!
وحين يطول زمن التربية فإنه من المتوقع أنْ تحدث في المجتمع وقائع مختلفة، يكون من شأنها أنْ تمثل امتحاناً لصقل الإيمان من جانب، وفرصة لتجلية المفاهيم والتصورات من جانب آخر، وهنا يقع ترتيل التربية موقعه من التأثير، فإن المؤمنين معرضون للابتلاء بالسراء والضراء طوال وقت التربية ليتم صقل ما خشن منهم بترتيل التربية، كما وقع من بني إسرائيل في حادثة الأنواط والبقرة وغيرهما، وكما حدث لأصحاب محمد في بدر وأحد والخندق والإفك وغيرها.
فلا يمثل كل خطأ يقع في زمن التربية تراجعاً أو سقوطاً، بل كثير منها يأتي في السياق الطبيعي. وهذا ما يجب أن يتنبه إليه المربون، لئلا يظنوا أنَّ جهودهم أهدرت، ولئلا يصابوا بالإحباط والحزن على ما فاتهم.
نعم! تستحق هذه الظواهر والحالات أنْ تكون محل دراسة وعناية وملاحظة.
وفي حقيقة الأمر أنَّ القرآن تعرض للذين ينسلخون من الآيات التي أوتوها وغووا وأخلدوا إلى الأرض واتبعوا أهواءهم. لكنهم – حين تكون التربية في اتجاهها الصحيح – هم الأقلون، أما الأكثرون فهم ممن ينطبق عليهم قول الله تعالى: (إن الذين تولوا منكم يوم التقى الجمعان إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا ولقد عفا عنهم).