تحت هذا العنوان سأتحدث – بحول الله – عن ملخصٍ لكتاب بهذا العنوان.. عبر لقطات تاريخية من التاريخ المعاصر لمصر. ولا يغني بحال عن الرجوع إليه وقراءته بتمعن، لأهمية تفاصيله وكثرة الدروس المستفادة منها.
كتاب حكاية عار من تأليف البرلماني ورجل الأعمال الاسكتلندي: جون سيمور كي ت:1909م، يتحدث عن ماجريات الابتزاز البريطاني للمال المصري في عصر الخديوي إسماعيل والذي آل إلى احتلال مصر عام 1882م.
طبع الكتاب عام 1882م في نيويورك.
وطبع مترجماً لدى مركز إبصار بالقاهرة 1439هـ في 133 صفحة متوسطة.
وأشرف على ترجمته وحققه وقدم له بمقدمة مهمة باعتبارها مدخلاً تاريخياً لقراءة الكتاب الشيخ د. محمد بن موسى الشريف حفظه الله، ونشره عبر مؤسسة أمجاد حنين.
وله ترجمة جديدة لم أطلع عليها.
جديرٌ بالبدء القول بأن الخديوي إسماعيل (ابن إبراهيم بن محمد علي باشا) سعى في تغريب البلاد، وصرّح بأنه يريدها أن تكون قطعة من أوروبا، وعاش حياة مليئة بالترف والسرف المجنون الذي ليس له حد ينتهي إليه، كما ابتدأ في تغيير الحكم بالشريعة وإحلال القانون الفرنسي مكانها.
ومن صور سرفه المجنون: احتفاله التاريخي بافتتاح قناة السويس الذي كلفه الديون الباهضة – رغم الثروة الوافرة – والذي حضره ملوك أوروبا، وبلغ عدد المدعوين 6000 شخصية مهمة، حيث الموائد اللذيذة والخمور والمعازف والرقص والمدافع والألعاب النارية وألوان المباهج. واستمرت الاحتفالات 6 أسابيع محملة بكل ألوان اللهو والسرف.
واستغرق عرض فعاليات احتفال قناة السويس 17 صفحة من مقدمة الكتاب، أما عرض طريقة الخديوي في السرف والترف عموماً فاستغرق 18 صفحة من نفس المقدمة. ونأتي الآن على التوثيق التاريخي لما أسماه المؤلف: نهب مصر أو إفساد المصريين.
ويرى المحقق أن لدى الأوروبيين نزعة شر متأصلة تجاه الشعوب الإسلامية، ولذلك هم يدلّسون الدراسات ويخفون ما يضرهم منها، ولذلك قام المؤلف بجمع مادة الكتاب من الوثائق الرسمية مباشرة، لا سيما وقد كان أحد السياسيين ورجال الأعمال لدى الانجليز في الهند. ثم سرد الحكاية:
في 1862 وَ 1864م استدان الخديوي إسماعيل قرضين من البريطانيين 10مليون جنيه إنجليزي. هذا الدين لم تحصل الدولة المصرية على شيء منه! وفي سنة 1866م استدان 3 مليون من لندن وباريس بشروط مجحفة جداً، وفي سنة 1868م استدان 11,890,000جنيه. من دينٍ يبلغ 7 مليون جنيه لم يتسلم سوى (5 مليون).
تدخلت الدولة العثمانية للحيلولة دون الوقوع في فخ الديون البريطانية، لكن الأخيرة استطاعت التحايل على ذلك برشوة قدمتها لرئيس الوزارة العثمانية وقدرها 50,000 جنيه لمنع ذلك التدخل العثماني، وبعدها استدان الخديوي 32 مليون جنيه لم يأخذ منها سوى 20 مليون تقريباً! ولم يقف المكر عند هذا الحد.
بعد ذلك رأى البريطانيون في هذه الديون فرصة للضغط على الخديوي إسماعيل بغرض إبرام اتفاقيات تجارية معهم من قِبله، وتقليدهم مناصب رفيعة، وامتازت العقود بالربا، وكانت الرشاوي هي الطريق المسهل لكل تلك العقود.
بلغ مجموع ديون الدولة المصرية: 68,000,000 جنيه إنجليزي، في حين لم يبلغ العائد منها: 45,500,000 جنيه إنجليزي، من هذا العائد: 10,000,000 جنيه إنجليزي ذهبت لسداد دين ملكي سابق. وتراوحت الفائدة الربوية من هذه الديون ما بين 12,5% إلى 26,5% كما أنها لم تُدفع هذي الديون نقداً، وإنما تدفع بأشكال أخرى تزيد من الأرباح لصالح السماسرة.
بحلول 1875م عجزت الحكومة المصرية عن الوفاء بالديون لعدم قدرتها من جانب، ولحجم الدين الكبير من جانب آخر، حينها أقنع القنصل البريطاني في مصر الخديوي بضرورة استدعاء موظف مالي من بريطانيا (ستيفن كيف) لمعاونة مستشاري الخديوي والتحقيق في الشؤون المالية، و(ستيفن كيف) هو آمر الصرف العام في الحكومة البريطانية، فوصل على رأس بعثة خاصة إلى مصر وتسلم وظيفته الجديدة في الحكومة المصرية! وهنا نشرع في سردية مثيرة.
وجد (ستيفن) أن الوضع المالي في الحكومة المصرية ميؤوس منه، فبالإضافة إلى رأس مال القروض المستحقة لحملة السندات الأجانب؛ تكبدت الدولة ديناً سائراً بقيمة 18 مليون كان الهدف منه سداد الفائدة النصف سنوية، ويجدد الدين بفائدة 25% سنوياً! ولاحظ رهن كل الضرائب في البلد لحملة السندات. فكتب ستيفن: إنَّ قرض 1873م يبتلع كل مورد من موارد الدولة. وكتب: إن الفلاحين تعرضوا للإرهاق، وكانوا يدفعون ضرائب 3 أعوام في عامين، وإن هناك قروضاً إجبارية حُصِّلت لا يستطيع الفلاح التفريق بينها وبين الضرائب، وأنه ثمة ضرائب خاصة أفضت إلى الاضطهاد والابتزاز.
لاحظ ستيفن أنَّ سداد الفائدة الربوية يبلغ 5,700,000 من إجمالي الإيرادات البالغة 8,500,000 جنيه، وهذا الاغتصاب المالي لم يشهده التاريخ من قبل، أيْ إن الإيرادات لا توفي الدين، مما أفضى إلى استصدار قانون خاص يسمى (المقابلة)، وهو قانون يعفي مالك أطيانٍ إلى الأبد من نصف الضريبة إذا دفع منها مقدَّماً عن 6 أعوام.
لكن الخديوي فشل أيضاً، وفي نفس الوقت فإن الشعب لم ير أثراً لهذا الدين سوى قناة السويس والتي كلف بناؤها 16مليون جنيه إنجليزي فقط من مجموع الديون الهائلة. وكانت الفائدة الربوية تزيد من حجم الدين وتقلل من فرص النجاح في سداده، وهو تزيد عاماً بعد عام. وللأسف فقد كان الإجراء الإنقاذي الوحيد الذي تستخدمه الحكومة المصرية هو تأجيل مواعيد استحقاق القروض.
القنصل البريطاني بدوره ضغط على الخديوي بشأن السداد، وشاركه في هذا الضغط حملة السندات، فأعار عدداً من الموظفين الانجليز لإعادة تنظيم الإدارة المالية المصرية! وقدم (ويلسون) في مارس 1876م مُعاراً في الإدارة المالية عند الخديوي.
مع تقدم الوقت زادت القيمة الاسمية للدين المصري لتصل إلى 91 مليون جنيه انجليزي! وهو رقم مهول كما ترى، فقام حملة السندات بتفويض ممثلٍ لهم يطالب بحقهم بشكل قانوني ويمارس دوره الخاص في الابتزاز، وهو (فرولينجو جوشن). وهنا برز وزير المالية المصرية أقوى رجال الدولة وأكثرهم ثراء في موقف رافض للغة الابتزاز هذه، وبالتالي رفض التعامل مع (جوشن)، لكن هذه الممانعة اصطدمت بضعف الخديوي أمام رغبة الانجليز، فاعتُقل الوزير بتهمة إثارة الفتن والقلاقل والتآمر ضد الملك! واتُهِم بنهب البلاد بالتعاون مع الأوروبيين، وحكم عليه بالنفي.
في الواقع أنني تذكرت قول المتنبي:
وكم ذا بمصر من المضحكات ولكنه ضحكٌ كالبكا
وزير المالية المذكور هو: إسماعيل صديق باشا، أخو الخديوي إسماعيل من الرضاعة، ومع ذلك ضحى به الخديوي مقابل مكسبين فيما يراها هو: كسب الانجليز في صفه، وحمايته من السلطان العثماني عبد الحميد الثاني، ومات الوزير بعد ذلك في ظروف غامضة، وربما مات مقتولاً.
استمر الضغط بعد اختفاء وزير المالية إسماعيل باشا من المشهد، ووافق الخديوي على المقترحات (الإصلاحية) وأهمها:
- تعيين رقيبين ماليين أوروبيين لاستلام كل إيرادات الدولة وتدقيقها.
- تعيين مفتشين أوروبيين لمراقبة سداد قيمة الفائدة إلى حملة السندات.
- تشكيل إدارة أوروبية للسكك الحديدية.
- ارتهان إيرادات ميناء الاسكندرية لأداء الدين.
وأصبح الموظفون الإنجليز عبئاً إضافياً على خزينة الحكومة المصرية، فقد بلغت الرواتب المصرية التي كانت تصرف على المبعوثين الانجليز نحو 35,500 جنيه انجليزي في السنة. بمعنى أن الخزينة المصرية تُستنفد لصالح الإنجليز بعدة وسائل.
في يوليو 1877م حان موعد سداد 2,090,000 جنيه، لكن الخزينة خالية!
عبثاً توسل الخديوي إلى القنصل البريطاني متعللاً بتعرض البلاد للإفلاس، لكن القنصل قال له بصلف: (إن الدائنين يجب ألا يتكبدوا مغبة ما آلت إليه ظروف البلاد من حالة يرثى لها). وسدد الخديوي هذا القسط من (الأصول)، فأفاد القنصل دولته (بريطانيا) أن القسط المستحق تم سداده، ولكن على حساب الفلاحين الكادحين الذين أُرهقوا. في الواقع أن طريقة السداد الأخيرة هي ذاتها تكررت في المستحقات التالية لها، وبنفس الحجم من المأساة أو أشد، دون أي إجراء إنساني من بريطانيا من شأنه أنْ يخفف عن هذا الشعب المنكوب مأساته في الجوع والعذاب.
بعد ذلك اقترح القنصل تعيين لجنة تحقيق أخرى، وابتكار وسائل ابتزاز جديدة مثل:
- الاستيلاء على موارد الإيرادات المتبقية.
- خفض مصروفات الحكومة (المنهكة أساساً).
- خفض عدد الجيش المصري.
- في حال لم تُفِد هذي الوسائل فإن الدين يسدَّد من الممتلكات الخاصة للخديوي.
هنا قاوم الخديوي الوسيلة الثانية بالذات، لكنه عبثاً حاول. ومضت أشهر على عدم تسلم الموظفين رواتبهم، ثم آل الحال إلى خفض رواتب موظفي الدولة.
وبدأ المصريون في حراك وطني يتشكل يوماً إثر يوم ضد الإنجليز والأجانب الأوروبيين الذين نهبوا الموارد وهربوها عبر السوق السوداء.
في 30 مايو 1877م أعلن القنصل البريطاني ما يلي:
(خزانة الدولة فارغة، ورواتب الجنود وموظفي الحكومة لم تُدفع لعدة أشهر، ويعاني أفراد هذه الطبقة من أشد أصناف الضيق والبؤس، كما أن إدارة البلاد على حافة الانهيار، وشعب الخديوي ضاق ذرعاً بدفع كامل مستحقات حاملي السندات).
لقد سيقت هذه الحقائق كجرائم سُجلت ضد الخديوي! الخديوي بدوره رفض هذا التصريح، لكن الحال في واقع الأمر يزداد سوءاً، والجوع ينهك المصريين، وحملة السندات لوحدهم انتزعوا – من الإيرادات البالغة 9,500,000 جنيه – مالا يقل عن 7,400,000 جنيه إنجليزي، إضافة إلى مليون جنيه إنجليزي فائدة ربوية، وما تبقى هو للنفقات الضرورية للحكومة.
العجز في صرف مستحقات الموظفين أصبح كارثياً.
عند حلول القسط المستحق التمس الخديوي لدى الانجليز أن يصرفه للموظفين، لأنه في حالةٍ لا يمكن الجمع فيها بين سداد الموظفين وسداد الانجليز، فرفض الإنجليز هذا التوسل. ثم توسل الخديوي أن يقوموا بجولة تفتيش شخصية ليروا بأعينهم حجم الإفلاس، لكنهم رفضوا. لقد حاول الخديوي أن ينقذ ما يمكن إنقاذه، وفي نفس الوقت لا مناص لديه من أن يهتم برواتب الموظفين حالاً.
عقب بعض المناوشات أصدر الخديوي مرسوماً بتعيين اللجنة الرقابية بصلاحيات تخوِّل لها فحص الإيرادات فقط دون المصروفات، فقام حملة السندات بمقاضاة وزير المالية (ابن الخديوي: محمد توفيق) وصدرت الأحكام ضده.
امتنع الخديوي عن تنفذ الحكم، فأرسل جميع القناصل مذكرات احتجاج ضد الخديوي لعدم تنفيذه قرارات المحاكم، معللين بأن ذلك يشكل انتهاكاً للمواثيق الدولية، وإهانة لأوروبا. فقامت الحكومة البريطانية بشكل رسمي – عبر قنصلها العام – بتهديد الخديوي وأن عليه أنْ يتيح للإنجليز رقابتهم المالية على المصروفات. وأثناء مقاومة الخديوي البائسة أصدرت محكمة النقض العليا المؤلفة بالكامل من قضاة أوروبيين احتجاجاً عليه بشأن ديون حملة السندات، لعدم تنفيذه الأحكام الصادرة بحقه، كما نطقت المحكمة بالحكم على ابنه بإجباره على تقديم سجلات المصروفات ودفع كافة مصاريف الدعوى.
30 مارس 1878م كان منعطفاً مهماً، حيث أصدر الخديوي إسماعيل مرسوماً بتعيين لجنة للتحقيق في الوضع المالي برمته في مصر، وتتألف هذه اللجنة من 6 أعضاء أوروبيين، وتهدف (رسمياً) إلى تأمين ديون حملة السندات.
وفي مايو من نفس العام صدر حكم بمصادرة أثاث قصر الخديوي لصالح مؤسسة أوروبية، وأقيل شريف باشا من وزارة الخارجية والعدل.
نجحت لجنة التحقيق المالي في إرغام الخديوي على التنازل عن أملاكه الخاصة بعائدات تبلغ 390,000جنيه قيمة ما يملكه من الأراضي الخصبة الشاسعة، ولم يتبق له سوى الأملاك الشخصية. ثم أعلنت اللجنة في تقريرها الصادر في يونيو أن (رئيس الدولة مسؤول شخصياً عن العجز في الميزانية). ثم أصدرت اللجنة مرسوماً يقضي (بالحد من السلطة المطلقة التي تمتع بها الخديوي حتى الآن) وخلُصت إلى سلب كلاً من الخديوي وعائلته جميع أملاكهم المتبقية، سواء الأطيان منها أو القصور، مقابل (مخصصات ملكية ملائمة لمنصبه).
ووافق الخديوي عاجزاً عن أي مقاومة..
تولى رئيس اللجنة (ويلسون) منصبَ وزير المالية بتفاهم يخول له ممارسة السلطة المطلقة والكاملة على كل موظف تحت إمرته، بما في ذلك الإقالة والتعيين، كما تولى المفتش الفرنسي منصبَ وزير الأشغال العامة، وتعهد الخديوي رسمياً بعدم التصرف مطلقاً بما يتعارض مع سياسة وزيريه. وهنا بدأ نهبٌ من نوع جديد!
قام الوزيران بتعيين موظفين أوروبيين في المناصب المهمة بديلاً عن الموظفين السابقين، وخلال شهور أُعفي 500 موظف محلي من مناصبهم، وأُدرج مكانهم 950 موظفاً أوروبياً، وتزايد عدد الموظفين الأوروبيين في 1882م إلى أنْ وصل إلى 1325 موظفاً، برواتب تصل إلى 373,000 جنيه في السنة.
عمل الوزيران بما يشتهون في سداد الديون المستحقة، وسُلبت من الخديوي آخر أملاكه ووضعت تحت تصرف اللجنة، فرهنوها لبنك روتشيلد مقابل 8,500,000 جنيه، وبلغ الهوان بالخديوي إسماعيل أنه توسل إليهم أنْ يعطوه على الأقل ثمن مواشيه وأدوات الزراعة التي تركها في أملاكه المسلوبة! وأكّد رئيس الوزارة للقنصل العام أن مطالب الخديوي (البائسة) قانونية وصحيحة، لكن (ويلسون) رفضها بتاتاً، وبات الخديوي إسماعيل – بعد ما كان عليه – مجرداً من الثروة والسلطة والنفوذ، وأُفرِغ من كل قيمة، وهُدد بشكل رسمي بأنَّ أيَّ محاولة لإفشال (الخطة الإصلاحية) ستعود عليه بالعقوبة.
يا لهول ما قرأت!
رداً على هذا التهديد قال الخديوي:
(ما هو المنصب الذي أشغله الآن في مصر؟!
لقد سلمتُ كل ممتلكاتي الخاصة وسلطتي الشخصية.
فلستُ أنا من يتحمل المسؤولية، بل وزرائي، أظهرَتْ حكومتكم سابقاً حسنَ نية تجاهي وتجاه عائلتي، ولكنها تبدو الآن وكأنها تتخذ موقف عداوة وخصومة ضدي).
كما هو المتوقع؛ فلم تتحسن الظروف المالية بل ازدادت سوءاً: رواتب الأوروبيين مرتفعة، وانخفاض نهر النيل، والربا… ازدادت المخاوف الحكومية من العجز عن السداد، وعدم التنازل أو التخفيض في الديون، ولجأت اللجنة إلى خفض المصروفات الحكومية والرواتب على الجيش الوطني مرة أخرى بغرض إنهاك الجيش. ثم صدر قرار من الوزيرين بفرض العمل بالسُخرة على أكثر الفلاحين. أيْ: العمل بالمجان قسراً. وهكذا صدرت قرارات مستفزة ومبتزة لما تبقى من المال المصري، ثم أعلن القنصل العام في يناير 1879م عن هياج شعبي يجتاح البلد، وأن على الخديوي أن يتحمل مسؤوليته عن إيقاف هذا الهياج.
الهياج الشعبي كان جاداً، حيث تطور إلى أن وصل إلى حبس الوزير (ويلسون) على يد حشد كبير يتقدمهم 400 ضابط مسلحين، ولم ينقذه سوى الخديوي إسماعيل، وفي فبراير تقرر إقصاء الخديوي من مجلس الوزراء وإحلال – إسمياً فقط – ابنه توفيق، وتقرر منح الوزيرين الأوروبيين حق الفيتو في مجلس الوزراء المصري.
بعد شهر واحد استقال توفيق، وبدأ السخط الجماعي يتحول إلى حركة وطنية وتململ شعبي جاد. والوزيران لا يعبئان بذلك. وفشلت محاولات المقاومة الوزارية والرئاسية، وبدأ الاحتكاك مع وزارة (ويلسون)، حتى أصبح كل الشعب هائجاً ضد الممارسات الأوروبية.
وامتصاصاً لهذا السخط أقيل الوزيران، ثم أعيدا إلى منصبيهما بضغط من القناصل الأوروبية، ثم ضغط الإنجليز على الباب العالي في اسطنبول لعزل الخديوي إسماعيل عن الحكم لصالح ابنه توفيق، واستمر الانجليز بالضغط على مصر حتى قامت ثورة عرابي ضد الخديوي توفيق والتدخل الأجنبي معاً.
واستعان الخديوي توفيق على ثورة عرابي بالأسطول الانجليزي المرابط أمام الاسكندرية، فدخل جيش الإنجليز الاسكندرية ودمروها، وهُزم عرابي ومن معه، وحكم على عرابي بالنفي إلى سرنديب.
واحتل الانجليز مصر عام 1882م، ولمدة 74 سنة.
انتهى عرض الكتاب ، وبهذا انتهى فصل من فصول الاستعمار في وجهه المالي، وتبين للقارئ كيف يمد الغرب حبائله المالية لإيقاع البلاد الإسلامية في فخ الدين العام.
والحق أنه كان بالإمكان الخروج من شراك الإنجليز بأقل من هذه الخسائر، لكن آل باشا لم يكن لديهم الثقة الكافية بالذات، كما لم يكن لديهم الإرادة الصادقة بالتحرر من التبعية الغربية. إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار.