مَن مِنا لا يتمنى أنْ يكون ابنُه أو تلميذُه في أحسن صورة من صور الاستقامة؟
كلنا نتمنى ذلك.
لكن الواقع يقول: إنَّ الذين يصِلون إلى هذه الصورة المثلى بحيث يكونوا طلبة علم مميزين أو دعاة مخلصين أو نحو ذلك قليلون جداً، لا سيما في عصر تتفشى فيه المنكرات وتستساغ فيه التوافه والمذام. ثم تتسع الدائرة فيمن هم أقل تمسكاً واستقامة، وهكذا يزيد اتساع الدائرة باتجاه الأقل تمسكاً. هذا هو الواقع، وهو مقتضى السنة الربانية في القلة والكثرة.
كما أننا ندرك أنَّ الصورة المثلى فضل من الله يؤتيه من يشاء من عباده، وغالباً هو ليس نتاجاً محضاً لتربية مقصودة، أي أنه لم يكن (على سبيل المثال) في المخرجات التربوية: تخريج الإمام أحمد أو البخاري، ولم يكن في بال والدَي عبد العزيز بن عبد الله بن باز تخريج سماحة الشيخ ابن باز بهذه الصورة.
لذلك تكثر أمنياتنا بتكرار هذه النماذج في أُسرنا ومحاضننا، لكننا نخفق وتخيب توقعاتنا وآمالنا.
المشكلة تتولد من هنا، ثم تتمثل في سلوك تربوي غير جيد، لكنه متفشٍ في بعض الأسر والمحاضن التربوية، وهو المحاسبة المستمرة على الأخطاء الصغيرة والدقيقة، من قبل الوالدين والمربين.
هذا الحرص على الخير والاستعجال في الوصول إلى أفضل النتائج والخوف من تبعات الأخطاء أو تفاقمها هو ما يدفع إلى تلك الممارسات الضارة من محاسبة دقيقة وتنبيه على كل شاردة وواردة، الأمر الذي سينتج عنه تدمير الشخصية، فإنَّ الابن أو الطالب يسعى إلى تكوين صورة إيجابية عن نفسه ويحاول أنْ يصنع لها تعريفاً بين أسرته ومحضنه، بحيث يعرفونه بعناصر هذه الشخصية. والأخطاء تمثل قوادح في معالم صورة تلك الشخصية، فإذا تكرر تأنيبه وتنبيهه على هذه الأخطاء شعر بأنَّ صورته التي لا يفتأ يرسمها غير صالحة، أو يشعر بتمزيقها على الدوام، وهذا يولد لديه إحباطاً وشعوراً بأنَّ الخطأ ملازم له.
فإذا كان قوي الشخصية فإنه سيدافع هذا الشعور باستسهال الأخطاء ثم الانحرافات، ثم يقنع نفسه بأنَّ الاستقامة صعبة المنال أو غير واقعية، فيضطر إلى الابتعاد عنها فكراً وسلوكاً، ثم سيتخذ قراراً بسلوك الطريق غير المستقيم.
وأما إذا كان ضعيف الشخصية فإنَّ الأمر لا يقلُّ خطورة عن الأول، إذ وجوده في الأسرة الحريصة على الخير أو وجوده في المحضن التربوي يجعله يسعى إلى تكوين صورة عن نفسه تتسق مع روح هذه الأسرة أو المحضن، فحين لا ينجح في ذلك، على نحو ما أسلفتُ في الأثر الأول، فسيضطر إلى تصنع الصورة المأمولة لدى الأسرة أو المحضن، أي يعمد إلى الرياء فيتخذه نهجاً يسير عليه فيسلم من أذى التأنيب والتنبيه، ويحوز على احترامٍ لذاته كان ينشده في أسرته ومحضنه، والأفظع من ذلك أن تتشكل لديه نفسية المنافقين الذين يظهرون الخير والبر والإيمان ويبطنون الشر والفجور والعصيان.
في هذه الحال فإننا حصلنا على خلاف ما كنا نرجوه في تربيتنا لأبنائنا وطلابنا من انحراف السلوك، أو انحراف الفكر أحياناً!
وبالتالي أنصح الآباء والأمهات والمعلمين والمعلمات أنْ يتنبهوا لهذا الأمر، وأنْ يزنوا الأمور بموازين التربية الدقيقة، وألا تتحكم عواطفهم وطموحاتهم في طريقتهم التربوية.
هنا يرز سؤال مهم: ماذا نعمل تجاه ما نراه من أخطاء؟
والإجابة عنه سألخصها في نقاط:
- مما نحتاج إلى التذكير به أنَّ وقوع الأخطاء من المتربين هو الأصل، وليس الأصل توقع الكمال، والوعي بهذا الأمر يقوم بتهدئة وجداننا من القلق الناتج عن وقوع الأخطاء ويجعلنا نتعامل معها بحكمة أكثر. وقد كان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم يخطئون وهم على كبر في السن والوحي يتنزل بين ظهرانيهم وفيهم رسول الله.
- حديثي السابق لا يشمل ضرورات الدين ومحكماته، وإنما المسائل الصغار والمشتبهات وما نتوهم أنه خطأ وفي حقيقته هو ليس كذلك، ربما يكون عُرفاً أو تقليداً.
- غض الطرف عن الدقائق والصغائر في حال لم يعلم الابن أو الطالب بعلمنا عن تلبسه بها.
- في حال أصبح من المكشوف لديه أننا نعلم عنه ذلك وأصبح لا مناص من الحديث معه في ذلك فلا يعدو أنْ يكون توجيهاً سريعاً لطيفاً ممزوجاً بالتذكير بالاستغفار والتوبة مستحضراً اليوم الآخر.
- عدم الالتفات ثانية إلى هذا الأمر.
- التركيز على الأهداف المرسومة والأولويات التربوية في الأسر والمحاضن، لأن البناء المتأني والحكيم والهادئ من شأنه طمس الأخطاء واحداً تلو الآخر من سلوك الطلاب والأبناء. الانشغال بالبناء الجيد يقي من الانحرافات بإذن الله. أما الانشغال بالتصحيح والتنبيه والتأنيب العقوبات فمن شأنه أنْ يُشغل الآباء والمربين عن الوظيفة الرئيسة والأولويات التربوية، ويضعهم في مربع الإدارة بدلاً عن مربع القيادة.
- اللجوء الدائم إلى الله تعالى بدعائه للأبناء والطلاب بالصلاح والوقاية من الشرور.
أرجو أنْ تكون هذه النقاط قادرة على جعل الابن أو الطالب – بإذن الله – هو من يقوم بتصحيح أخطاء نفسه وتعديل سلوكه مختاراً، فنكون بذلك نجحنا في صياغة الإنسان المستقيم ظاهراً وباطناً. نعم سيستغرق منا وقتاً طويلاً، ربما لسنوات، وهنا يتوجب علينا الصبر والحكمة وألا نستعجل ثمرة التربية. والتوفيق بيد الله.
عن ابن مسعود رضي الله عنه أنَّ رجلاً أصاب من امرأة قبلة، فأتى النبي صلى الله عليه وسلم فأخبره، فأنزل الله عز وجل: ﴿وَأَقِمِ ٱلصَّلَوٰةَ طَرَفَيِ ٱلنَّهَارِ وَزُلَفٗا مِّنَ ٱلَّيۡلِۚ إِنَّ ٱلۡحَسَنَٰتِ يُذۡهِبۡنَ ٱلسَّئَِّاتِ﴾[هود:114]. فقال الرجل: يا رسول الله ألي هذا؟ قال: «لجميع أمتي كلهم». أخرجه البخاري برقم 526.