(ورقة عمل نشرتها على الشبكة بتاريخ 1/8/1440هـ)
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على خاتم الرسل أجمعين.
فهذه ورقة أضعها بين أيديكم، أعرض فيها مقترحاً تربوياً يتعلق بالأسرة، ويقصد بالأسرة هنا: الأسرة التي ينتسب إليها المستفيدون من العمل التربوي بالدرجة الأولى.
وقد قسمتها إلى أربعة محاور:
- مدخل تمهيدي.
- الأسرة المحضن التربوي الأول.
- نجاحات لا يؤبه بها.
- الدور المرتقب.
مدخل تمهيدي – الأسرة بين رؤيتين
ما هي منزلة الكيان الأسري في الشريعة الإسلامية؟
رغم الاندهاش الناتج عن سهولة الإجابة عن هذا السؤال، إلا أننا بحاجة إلى التذكير بها ولو بالإشارة، لأن الأطروحات المستغربة حازت على مساحة فكرية واسعة في المكتوب والمشاهَد، وثمة سبب آخر لا يقل أهمية عن الأول، وهو استغراقنا في إجراءات العمل التربوي بحيث تقل مساحة التأمل والمراجعة واستشراف المستقبل؛ والتي من شأنها أنْ تدلنا على ضرورة الاهتمام بالجانب الأسري في أدبيات العمل التربوي.
على أية حال، نحن بحاجة إلى التذكير بعدد من النقاط التي تجيب عن السؤال السابق، وهي:
- أحد أهم مقاصد الشريعة الإسلامية في تحريم الزنا وجعله من كبائر الذنوب وموبقات الأعمال إلى الحد الذي اتفقت فيه الشرائع على تحريمه وتجريمه هو تكوين الأسرة وحمايتها من الانهيار أو التلاشي أو حتى الضعف، لأن تطبيع الزنا يفضي إلى عدم الحاجة إلى وجود الزواج، وعليه فإنَّ وجود الأسرة تضعف أهميته في ظل التشريعات القائمة على إباحة الزنا.
- وهي مبنية على النقطة الأولى: أنَّ الأسرة في الشريعة الإسلامية هي التي يتكون منها المجتمع المسلم، والنواة التي يبنى عليها، ولا يمكن أن يوجد مجتمع يوصف بأنه مسلم إلا إذا كانت الأسرة هي المشكِّل له، ولذلك لم تكتمل حياة أبينا آدم في الجنة إلا بعد أنْ خلق الله تعالى أمنا حواء وزوجه إياها، قال الله تعالى: ﴿هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفۡسٖ وَٰحِدَةٖ وَجَعَلَ مِنۡهَا زَوۡجَهَا لِيَسۡكُنَ إِلَيۡهَا﴾[الأعراف:189]. وهذا الأمر هو جزء من تعريف المجتمع في الإسلام، بخلاف تعريفه في الحضارة الغربية؛ الذي يرى أنَّ المجتمع يتكون من أفراد وليس من أُسر!
- سطَّر علماء الإسلام عبر القرون تصوراً متكاملاً عن الأسرة وعناصرها ولم يتركوا شاردة ولا واردة إلا وأشبعوها بحثاً ونقاشاً وإفادة، وبرزت لنا الأبواب الفقهية والحديثية والسلوكية في موضوع الأسرة، كالنكاح والطلاق والعدة والميراث وأحكام بر الوالدين وتربية الأبناء وغيرها الكثير، إضافة إلى الحضور الأسري في كافة أبواب الفقه والحديث. وهذا يعكس اهتمام الشريعة بالأسرة وموضوعاتها، وتنظيمها، ومعالجة قضاياها.
- اجتهد فقهاء التربية الإسلامية في موضوع تربية الطفل بشكل خاص والأبناء بشكل عام داخل الأسرة، وانظر على سبيل المثال لا الحصر ما صنفه ابن القيم رحمه الله في ذلك (تحفة المودود). لقد كانوا يولون تربية الطفل أهمية بالغة، ولذلك تجد كبارهم لا يغفل الحديث عنها في مصنفاتهم، كابن خلدون.
- بر الوالدين – وهو أحد أهم قضايا الأسرة – جاءت الشريعة بالإعلاء من شأنه، بل نظمته في المحكمات الشرعية بعد توحيد الله! قال الله تعالى: ﴿وَٱعۡبُدُواْ ٱللَّهَ وَلَا تُشۡرِكُواْ بِهِۦ شَيۡٔٗاۖ وَبِٱلۡوَٰلِدَيۡنِ إِحۡسَٰنٗا وَبِذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡيَتَٰمَىٰ وَٱلۡمَسَٰكِينِ وَٱلۡجَارِ ذِي ٱلۡقُرۡبَىٰ وَٱلۡجَارِ ٱلۡجُنُبِ وَٱلصَّاحِبِ بِٱلۡجَنۢبِ وَٱبۡنِ ٱلسَّبِيلِ وَمَا مَلَكَتۡ أَيۡمَٰنُكُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ لَا يُحِبُّ مَن كَانَ مُخۡتَالٗا فَخُورًا﴾[النساء:36]. وهنا ينبغي التذكير بأنَّ المحكمات في شريعتنا جاءت في كل الشرائع الربانية.
- مسائل الحياة الزوجية وتربية الأبناء والسعي في مصالح الأسرة أصبحت من أهم المسائل التي يناقشها الناس اليوم في حواراتهم ومجالسهم واجتماعاتهم، سواء اتخذ النقاش فيها طابعاً رسمياً أم عفوياً، إذ تزاحم هذه المسائل غيرها على رأس هرم الاهتمامات لدى المجتمع، وكما أن هذا الأمر يدل على ارتفاع مستوى الوعي والاهتمامات فهو يدل أيضاً على أنها قضايا محورية في حياة الناس تستحق المزيد من العناية والاهتمام من قبل المؤسسات التربوية والاجتماعية، لأنها تستحق ذلك.
في الجانب الآخر، وفي مخططات التغريب تحديداً، ما هو شأن الأسرة؟
في واقع الأمر أنَّ الإجابة عن هذا السؤال من الوضوح بمكان، ولا داعي هنا للتفصيل أو التوثيق، ولكن سأشير سريعاً إلى بعض النقاط:
- أقرت هولندا 2001م زواج المثليين، أي الزواج من نفس الجنس (ذكر بذكر أو أنثى بأنثى) ثم تبعتها عدد من الدول حتى وصل عددها قرابة 25 دولة منها دول كبرى مثل أمريكا وفرنسا وبريطانيا. وهذا العدد قابل للازدياد والانتشار بفضل السياسات الدولية الدافعة نحو الإباحية والانفلات. وهنا يتمثل شكل جديد للأسرة لا يقدم المقاصد الشرعية من تكوينها، فلا إنجاب ولا تكامل ولا اتساق مع الفطرة والنواميس الكونية، أي أنَّ القوانين الدولية تتجه نحو إيجاد مفهوم جديد للأسرة يختلف جذرياً عن المفهوم الإسلامي والفطري للأسرة.
- في العقد الأخير برزت الدعوة إلى إسقاط الولاية على المرأة في المملكة العربية السعودية، وعقدت لهذا الأمر الندوات وحلقات النقاش، واُطلقت عدد من الحملات المطالبة بذلك، إضافة إلى المكتوب والمشاهَد في الكتب والوسائط الإعلامية. كما أيدت بعض المنظمات العالمية هذه الدعوة، حيث قدمت – على سبيل المثال – منظمة هيومن رايتس واتش تقريرين في هذا الإطار، الأول بعنوان: قاصرات إلى الأبد 2008م، ناقشت فيه عدداً من قضايا المرأة ومن ضمنها ولاية الرجل على المرأة في الزواج وحقها المساوي لحق الرجل في كل شيء ومنها الوصاية على الأطفال وغير ذلك. ثم أصدرت ذات المنظمة تقريراً بعنوان: كمن يعيش في صندوق 2016م، ناقشت فيه نظام ولاية الرجل على المرأة في السعودية، وهو باختصار شديد يتحدث عن “خضوع المرأة لسيطرة رجل”، ويوصي بإلغاء الأنظمة واللوائح المتعلقة بهذا الأمر، ويدعو إلى الحرية الكاملة والمطلقة للمرأة. هذا الأمر في حقيقته وجوهره يدعو إلى استحداث نموذج جديد للمجتمع يتطابق مع النظرة الغربية له، ويتناقض تماماً مع النظرة الإسلامية. ولستُ مضطراً هنا لتبيين ما هي حقوق المرأة في الإسلام أو صور تكريم المرأة في الإسلام، وإنما أردت الإشارة إلى الجهود المبذولة في سبيل تحويل الأسرة، ذلك المكون الاجتماعي العميق، إلى قالب جديد ومفهوم جديد لا يتوافق مع الدين ولا مع الفطرة، إذ أنَّ إسقاط الولاية على المرأة يعني رفض قوامة الزوج على زوجته وحريتها في كل شأن يخدش بناء الأسرة، ويفضي إلى الاختلاط والسفر بلا محرم وإقامة العلاقات غير المشروعة وإعادة هيكلة الواجبات المنزلية والأسرية والزواجية… الخ.
- تنامي الفكر النسوي، والنسوية كما يعرفها معجم (أوكسفورد) هي: الاعتراف بأن للمرأة حقوقاً وفُرَصاً مساوية للرجل، وذلك في مختلف مستويات الحياة العلمية والعملية. أما معجم (ويبستر) فيعرفها بأنها: النظرية التي تنادي بمساواة الجنسين سياسياً واقتصادياً واجتماعياً، وتسعى كحركة سياسية إلى دعم المرأة واهتماماتها، وإلى إزالة التمييز الجنسي الذي تعاني منه. وقد تطرفت الحركات النسوية في مطالبها إلى درجة أنَّ الاتحاد النسائي بمصر طالب بإلغاء نون النسوة! إضافة إلى المطالبة بتعديل قوانين الطلاق وتعدد الزوجات. وتسربت مفاهيم النسوية الداعية إلى المساواة المطلقة بين الرجل والمرأة، فأنت تجد هذا الأمر منثوراً في المقالات والتغريدات والحوارات. وهذا يعني تشكيل تصورات جديدة ومخالفة للمجتمع الذي تعد الأسرة فيه المكون الرئيسي، وتدعم حكومات العالم الغربي هذا الاتجاه فلذلك نحن نشاهد احتفاءهم بالهاربات والمتمردات على القيم الاجتماعية في المنطقة احتفاء لا يحظى بعشره النساء اللاتي يواجهن الظلم والموت والفجيعة في البلدان المنكوبة – فرج الله عنها – كالعراق وسوريا واليمن وفلسطين وبورما. هذا الأمر سيكون له انعكاساته التربوية السلبية لاحقاً.
- لم أتطرق إلى المؤتمرات العالمية التي عقدت بغرض وضع تصورات جديدة للأسرة والزواج والإنجاب والجنس كالمؤتمر الدولي للسكان الذي نظمته هيئة الأمم المتحدة 1994م في القاهرة، وأمثاله قبلاً وبعداً. والتي تدعو جملة وتفصيلاً إلى فرض النموذج الغربي لشكل ومضمون الأسرة، أي تحويل المجتمعات الإسلامية إلى مجتمعات ليبرالية إباحية لا تعترف بدين ولا تلتزم بمبادئ ولا تتوازى مع الفطرة.
- على الصعيد الواقعي للأسرة؛ فإنَّ الأطفال – غالباً – يقضون الساعات ذوات العدد ، وبشكل يومي، في مشاهدة المسلسلات الكرتونية أو في ممارسة الألعاب الإلكترونية، وبهذا الوصف فهم يخرجون من دائرة التأثير الأسرية الخاصة إلى التأثير المفتوح، وهذا يولد تحدياً هائلاً وعبئاً في تربيتهم.
بهذا الإيجاز يمكننا فهم الفرق بين الرؤية الإسلامية الأصيلة للأسرة والرؤية الغربية المادية لها، وهذا الإيجاز أقصد به الإشارة إلى أنَّ الآلة الغربية تسعى لعولمة مفهوم الأسرة الغربي وتعميمه على البلدان الإسلامية، مما يعني تحدياً تربوياً هائلاً ينتظرنا، ذلك أنَّ المستفيد في عملياتنا التربوية غير معزول عن التأثير المباشر وغير المباشر لمفهوم الأسرة الغربي وآلياته.
الأسرة.. المحضن التربوي الأول
أول عمل تربوي يقدم للمستفيدين يتم في أحضان الأسرة. هذا هو الواقع، ولا يمكن أن يكون غيره.
فالطفل لا يفتح عينيه إلا في حضن أمه، وهي أول من يسمع صراخه ويبتسم له، ثم يلبث تلك السنين الأولى بين جدران بيت أسرته. إنه المحضن التربوي الأول. كما أنَّ سنوات ما قبل الدراسة النظامية هي السنوات التي تتشكل فيها الخطوط العريضة لشخصية الطفل، وهي سنوات غالباً ما يقضيها الطفل في أحضان أسرته، لذلك نقول: إنَّ الأسرة هي المحضن التربوي الأول.
وإذا نظرنا أيضاً إلى ما بعد دخول الطفل المدرسة والتحاقه بالبرامج والفعاليات التربوية أو الاجتماعية، فإننا نجد أنَّ الأسرة تقوم مقام المدير أو المشرف العام بالنسبة إلى تلك البرامج والفعاليات والمحاضن التربوية، أفلا يدل ذلك على أنَّ الأسرة هي المحضن التربوي الأخطر والأهم.
ومع كون المحاضن التربوية تقدم جهداً رائعاً في تربية النشء، إلا أنها لا تستطيع لوحدها أنْ تستقل بالتربية أو بصناعة شخصية المستفيد، إذ لا يمكن لأي محضن أنْ يلغي وجود الأسرة التربوي إلا في حالات نادرة أو شاذة.
وإذا قارنَّا بين محضنين تربويين: الأسرة من جانب، والمحضن الذي يلتحق به الطالب من جانب آخر، فإننا سنجد أوجه الشبه بينهما في عدد من النقاط، فلكل منهما أهدافه التربوية، لكن الأسرة لا تكتب أهدافها في العادة، والمحضن الآخر يكتب أهدافه. ولكل من المحضنين وظائفه التربوية التي يقدمها، مع اختلاف في طريقة وأسلوب تقديم هذه الوظائف. ولكل من المحضنين رؤاه التربوية وفلسفته الاجتماعية.
وإذا كانت المؤسسة التربوية تبذل جهدها وتنفق حر مالها وعزيز وقتها وطاقتها في تأهيل المربين وتعليمهم طرائق التربية والتعليم والتواصل فإنَّ محضن الأسرة يقدم دوراً تربوياً كبيراً بدون ذلك؛ فهو محضن تربوي تلقائي. دعوني أقوم بهذه العملية الحسابية لكل من المحضنين في منطقة جغرافية محدودة ما:
- ربما يكون فيها من المعلمين في المحاضن التربوية ما عدده 30 معلماً.
- إذا افترضنا أنَّ متوسط عدد الطلاب لكل معلم 10 طلاب، فسيكون مجموع عدد الطلاب يساوي 300 طالب.
- ولو افترضنا أيضاً أنَّ متوسط عدد الطلاب من كل أسرة 3 طلاب، فهذا يعني أنَّ لدينا 100 أسرة تشاركنا التربية بعدد من الآباء والأمهات يصل إلى 200 ما بين أب وأم.
- اطرح من مجموع الآباء والأمهات حالات الموت والانفصال بنسبة 15% سيكون الناتج وجود 170 أب وأم، أي وجود 170 مربٍ داخل البيوت في المنطقة التي يتواجد بها من المربين في المحاضن التربوية (غير الأسرة) 30 معلماً، أي ما يفوق 5 أضعافهم في هذه المنطقة الجغرافية المحدودة.
إننا أمام جيش ممتاز من المربين وأسطول كبير من المحاضن التربوية التلقائية، التي يتوافر فيها عناصر التربية ومقوماتها.
فإذا كان أبناء وبنات هذه الأسر هم من يشكِّل فئة المستفيدين في محاضن التربية – كما في محضن الأسرة – ثم إنهم يقضون ما لا يقل عن 20 سنة داخل محضن الأسرة.. فلماذا لا نولي هذه الأسر مزيداً من الاهتمام والعناية! ولماذا تسكن هذه الأسر في هامش خططنا وأهدافنا التربوية! أليس من الأفضل أن نوسع دائرة الاتفاق والشراكة بين المحاضن التربوية ومحضن الأسرة؟ لا سيما في هذا الزمن الذي نحن بحاجة فيه إلى عدد أكبر من المربين وعدد أكبر من ساعات العمل التربوية وعدد أكبر من المستفيدين، ذلك أننا نواجه تحديات تربوية أخطر من ذي قبل، وتتطلب المزيد والمزيد من الجهد التربوي.
وإذا علمنا أن كيان الأسرة، ذلك المحضن الكبير، يراد له اليوم أنْ ينهار ويتفكك ويتمزق ويتلاشى.. ألا يستحق منا أنْ نمد له يد المساعدة والحماية والتقوية؟
نجاحات لا يؤبه لها
في الحديث عن علاقة المحاضن التربوية بالأسر تغيب الإنجازات غالباً، لكن الحقيقة أنَّ ثمة إنجازات قدمها العمل التربوي في جانب العلاقة مع الأسر، ولعل أبرزها أنَّ العمل التربوي استطاع أنْ يبني جسراً متيناً من الثقة بينه وبين الأسرة، وأصبحت المحاضن التربوية محل الثقة والوداد والاطمئنان بالنسبة للأسر، ولذلك نحن نرى – إلى اليوم – حرصاً من هذه الأسر على أنْ يلتحق أبناؤها وبناتها بالمحاضن التربوية، ويعمها السرور والابتهاج حين تكون هذه المحاضن في مكان قريب من مساكنها، بل وتتسابق الأسر إلى تلبية طلبات أبنائها المتعلقة بهذه المحاضن، وتباهي بأبنائها وبناتها حين يكونون منجزين أو متفوقين فيها أو عاملين فيها أيضاً.
وتستحق المحاضن التربوية كل هذه الثقة وكل هذا الوداد، ذلك أنها تقوم بتربية الأبناء والبنات، وترعاهم وتلبي بعض احتياجاتهم النفسية وتحميهم من الأفكار الهدامة والغالية.. هي فعلاً الملاذ الآمن للبنين والبنات في زحمة الضياع والانحلال والانحرافات.
وتستحق المحاضن التربوية كل هذه الثقة وكل هذا الوداد، لأن القائمين عليها كانوا على قدر كبير من المسؤولية، وعلى وعي جيد بأهمية بناء العلاقة الإيجابية مع الأسر.
من جانب آخر، لم تتجاوز علاقة المحاضن التربوية بالأسر هذا المنحى إلا في قليل من التشارك بينهما في بعض العمليات العلاجية، حين يستدعي الأمر ذلك؛ من وجهة نظر المحاضن.
لكن الأسرة حظيت باهتمام اجتماعي أكثر من كونه تربوياً في عدد من المجالات، في الفترة الماضية، فعلى سبيل المثال لا الحصر انتشرت جهات الأنشطة الاجتماعية، ومراكز التنمية الأسرية، ومكاتب الاستشارات الزوجية، وعيادات الإرشاد النفسي، وتوغلت هذه الأنشطة الأسرية في المجتمع حتى وصلت إلى المراكز النائية والقرى البعيدة. كما أقيمت الملتقيات العلمية وعقدت المؤتمرات التي تناقش هذا الموضوع، في جانبه الاجتماعي.
وفي الواقع أنَّ هذا اللون من الأنشطة لم يكن معروفاً لدى المجتمع السعودي لأنَّ هذا المجتمع كان في غنى عنه لما يتمثله من ألوان النشاط الاجتماعي البسيط غير المنظم، وهو نابع من القيم الاجتماعية الراسخة في المجتمع، ولكن مع عولمة القيم الغربية المادية بدأت قيمنا الاجتماعية في التناقص والأفول، فجاء النشاط الاجتماعي مستدركاً.
ومهما يكن فإنَّ خلاصة القول هي أنَّ الأسرة حظيت بالفعاليات الاجتماعية المتنوعة والقليل من الأنشطة التربوية.
الدور المرتقب
(المقترح الأول)
أول مقترح في هذا الباب هو نقل الأسرة في العمل التربوي من مربع الثقة إلى مربع الشراكة، أعني بذلك الأسرة التي ينتسب إليها الطالب. لا يزال يوجد بين العمل التربوي وبين الأسر مربع ثقة، والمقترح هو ترقيته لأن يكون مربع ثقة وشراكة.
وأعني بمربع الشراكة أنْ تتحول الأسرة إلى شريك تربوي للمحاضن التربوية، تقوم بجزء من الدور الذي تقدمه المحاضن التربوية. نعم الأسر تقوم بأدوارها التربوية الخاصة، واليوم نريد منها أن تقوم بجزء من أدوار المحاضن التربوية المنظمة والمقصودة؛ والتي تتضمن رؤية محضن التربوية وأهدافه.
هذا المقترح يجعل الأسر والمحاضن التربوية المتنوعة تسير في طرق متوازية وفي اتجاه واحد ولأهداف موحدة.
ذلك أنَّ الأسرة اليوم غير قادرة على القيام بكافة المتطلبات التربوية والتوجيهية؛ حيث يتلقى الأبناء والبنات كثيراً من رسائل التوجيه من خارج إطار الأسرة، وتحديداً فإنَّ التقنية اليوم تسيطر على أغلب منافذ التربية والتوجيه وتعد مصدراً منافساً للتربية الأسرية، وإذا شبهنا تلقي الأبناء والبنات رسائل التوجيه والإرشاد من خلا الأسرة بانحصار البيع من خلال بقالة أو دكان فإنها اليوم تشبه المزاد العلني أو الحراج أو الأسواق العامة المفتوحة: من يعرض بضاعته بشكل أفضل يبيع ويستقطب أكثر.
وكما أنَّ الأسر في هذه الحال بحاجة إلى من يساندها في عملها التربوي فإنَّ المحاضن التربوية بحاجة أيضاً إلى أن تكون الأسر في خدمة رؤيتها التربوية وشريكاً فاعلاً في تحقيق أهدافها. إنني لا أتحدث عن تطعيم الأسرة ببعض الفعاليات، ولا أتحدث عن أنشطة شكلية، فتنبه.
والشراكة تختلف عن مجرد الثقة والوداد المشترك، إنها تعني أنْ تكون الأسر عنصر من عناصر التربية، فلو رجعنا إلى المثال السابق والذي فيه (170) مربٍ ومربية في الأسر و(30) مربٍ في المحاضن التربوية في محيط تلك الأسر، فإنه سيكون لدينا بهذه الفكرة (200) مربٍ ومربية يقومون بعمل تربوي مشترك ذو أهداف موحدة. وهذا يتطلب الآتي:
أولاً: تربية موازية
أول ما يتوجب علينا هو أنْ تقوم محاضن العمل التربوي بتدريب الآباء والأمهات على مهارات التربية وتقنياتها وإدارتها كما تفعل ذلك مع منسوبيها من المعلمين والمشرفين والمديرين. وهنا نقطتان: تدريب على فنون التربية بشكل عام، وتدريب على تلك التربية التي تتقنها المحاضن.
المستهدف والمستفيد واحد في الأسر وفي المحاضن التربوية، فهل تستطيع أنْ تبتكر المحاضن التربوية لوناً جديداً في التربية موازياً؟ بحيث تقدم الأسر – مكملة للمحاضن التربوية – بعض الفعاليات والأنشطة التربوية والتي تحقق الأهداف التربوية للمحضن التربوي؟
جزء كبير من التربية يعول فيه على الأسرة وتنشئتها للأبناء والبنات، وقد أخبرنا النبي r أنَّ “كل مولود يولد على الفطرة، فأبواه يهودانه أو ينصرانه أو يمجسانه”.
هذا هو المقصود.
ثانياً: بناء رؤية تربوية مشتركة
كما أنَّ المحاضن التربوية تقوم ببناء رؤيتها التربوية وتصوغ الأهداف وترسم الخطط بناء عليها؛ كما جرت العادة، فإننا اليوم بحاجة إلى أنْ يشارك الآباءُ والأمهات في بناء الرؤى ووضع الأهداف ورسم الخطط، وهذا ليس بنشاز ولا مستحيل، فكثير من الآباء والأمهات اليوم لديهم الهم التربوي ولديهم من الثقافة ما يؤهلهم للمشاركة التربوية المنظمة، لكنها تائهون بين الكم الهائل من الطرح التربوي المتناثر في قنوات التواصل والقنوات الفضائية والإذاعة.
أصبح هذا المطلب ملحاً لا سيما وأنَّ كثيراً من الذين يباشرون تربية الشباب في محاضن التربية هم ممن ليس لهم أبناء على وجه الحقيقة، فهم غير مكتملي الخبرة التربوية، وربما يفتقدون لشيء من المعاناة التربوية، كما يعوزهم الفهم الأفضل عن كنه الأبناء والبنات وواقعهم.
بناء على هذا سأتخيل أنَّ الآباء والأمهات سيشاركون في إجراءات التخطيط في المحاضن التربوية، وفي إجراءات التقييم كذلك، وربما سيشاركون في أكثر من ذلك.
ثالثاً: برامج التأهيل الزواجي
رغم شكرنا وثنائنا على المؤسسات الاجتماعية على تناولها الاجتماعي لبرامج التأهيل الزواجي إلا أنه اليوم لم يعد كافياً هذا التناول.
اليوم تظهر مشاكل كثيرة ومتنوعة وغريبة في بدايات الحياة الزوجية، بفضل الانفتاح على النماذج المنتكسة للزواج، والتي تمثل الجانب الواقعي للتأثر بالنسوية؛ الدين الجديد الذي يزداد عدد معتنقيه من النساء والرجال، هذه النماذج منتشرة على مواقع التواصل الاجتماعي وخاصة: تويتر ويوتيوب وسناب شات، وأخص السناب شات لأنه يمثل النموذج الواقعي لما ذكرته.
ليس شرطاً أن يكون التأثر بالنسوية على هيئة منتمين ومنتميات لمجاميعها، بل يحدث أن تتأثر فاضلات وطالبات علم وطيبات ومحافظات دون أن يكون لهم أي انتماء، وبالتالي فنحن أمام تحدٍ تربوي بامتياز لمسألة التأهيل الزواجي.
ثمة مسائل يجب أنْ نلتفت إليها في التأهيل الزواجي: التربية على المسؤولية، أعني مسؤولية الحفاظ على كيان الأسرة وتربية الأولاد ورعايتهم، والمسؤولية الشرعية في شؤون الحياة الزوجية، وفنون التواصل الجيد والآمن، وحل المشكلات، والصبر والتنازل وتربية الأطفال… إلى آخر تلك القائمة من المهام التربوية التي أعتبر الالتفات إليها من المهمات اليوم في العمل التربوي، بحيث تكون ضمن خططنا التربوية وجزء من الفعاليات التربوية وتؤسس لها المراكز والمؤسسات التربوية.
وإذا لم يكن لنا دور أكثر فاعلية تربوية في هذا الباب فإني لا أستطيع مجرد التخيل لما ستؤول إليه الأسرة بعد عشر سنوات أو أقل أو أكثر.
رابعاً: تقنيات أسرية فعالة
من الأمور التي أعتقد أنَّ الأسرة بحاجة إلى مدِّ يد العون فيها هي تنمية مهارات التواصل، سواء التواصل بين الزوجين، أو التواصل بين الوالدين والأبناء والبنات. لدينا مشكلة ظاهرة في هذه المسألة، وهي مسألة ليست ثانوية، بل هي من أمهات المسائل، وتصنف في الأولويات التربوية، وعليه فإنَّ المحاضن التربوية بما أوتيت من خبرة جيدة في هذا الباب يحسن بها أنْ تنقل هذه الخبرة – بعد تطويرها – إلى الأسر، لما يترتب عليها من حفظ لكيان الأسرة، وتعزيز لبناء الشخصية وتأثير في استقامة أحوالهم.
ومن الأمور التي أعتقد أنَّ الأسرة ستشعر بعظيم الامتنان لمن يقدمها لها هي قدرة الأبناء والبنات على إدارة حياتهم المنزلية والدراسية بأنفسهم. حيث تمثل الفوضى والعشوائية وضعف المسؤولية – لا سيما في ظل وجود الجوال الذكي والألعاب الإلكترونية – مسببات للتوتر داخل الأسرة وللشعور بالإخفاق والإحباط وضعف الأنا. والمحاضن التربوية قادرة على تلبية هذا الاحتياج الأسري بجدارة، إذا هي أرادت.
المحاضن التربوية قادرة على تقديم العديد من الخدمات التربوية للأسرة، لكنها فيما سبق لم تكن هذه النقاط ضمن الأهداف والسياسات التربوية لها. أما اليوم فنحن – في العمل التربوي – بحاجة إلى ذلك؛ بحاجة إلى تقديم هذه الخدمات والتدريب على تلك التقنيات.
(المقترح الثاني)
ثاني اقتراح في هذا الباب هو تحويل الأسرة من كونها رافداً تربوياً إلى كونها مخرجاً تربوياً.
لا شك أنه مقترح ضخم، لكن أهل التربية عودونا على تقحم الصعاب!
ومعنى ذلك أنه سيصبح جزءاً من أهداف العمل التربوي: صناعة أسر مستقرة مربية.
بلا شك سيتطلب ذلك منا أنْ نقترح عدداً من معايير ومواصفات الأسرة المستقرة والمربية، التي تمثل مخرجاً تربوياً.
وبلا شك فإنَّ قسماً من أعمالنا وأهدافنا وإجراءاتنا التي يقدمها العمل التربوي للطلاب والمعلمين سيقتطع ويقدم للأسرة، أي أنَّ خريطة الأهداف والمضامين التربوية المعتادة ستتغير!
لو افترضت أنَّ الأنشطة التربوية التي تقدَّم للطلاب تعادل 70% من مجموع الأنشطة التربوية، في حين أنَّ الأنشطة التربوية التي تقدم للمعلمين تعادل 30% فإننا اليوم بصدد تغيير هذه الأرقام لتصبح الأنشطة التربوية المقدمة للطلاب تعادل 50% ، ولتصبح الأنشطة التربوية المقدمة للمعلمين تعادل 25% ، ولتصبح الأنشطة التربوية المقدمة لأسر الطلاب تعادل 25% ، (النسب على سبيل المثال) وهذا سيتطلب تغيرات جوهرية في العمل التربوي.
(المقترح الثالث)
ثالث اقتراح في هذا الباب هو تنمية أسر العاملين في الحقل التربوي.
نعم كان لأسر العاملين شيء من الاهتمام الاجتماعي، أما اليوم فنحن نريد استهدافهم بعمل تربوي منظم.
شريحة من العاملين في الحقل التربوي دخلوا فيه وهم بعد عزاب أو حديثو عهد بزواج، ومع مرور الأعوام تلو الأعوام أصبحوا آباء، ثم كبروا أبناءهم وراهقوا، وبعضهم أصبح جداً، وفي كل الأحوال لديهم أسر وزوجات وذرية من الأبناء والبنات، لكنهم في كثير من الأحيان منشغلون عنهم بوظائفهم وأعمالهم ومنشغلون عنهم أيضاً باهتمامهم التربوي، وربما فوجئوا اليوم بجبهة داخلية فتحت عليهم فأعوزهم الكثير من المعالجات التربوية والتواصلية، لا سيما مع وجود الطفرة الانفتاحية على العالم والأفكار.
وهنا يمكن التعرض لبعض النقاط:
- التأهيل الزواجي للعاملين والعاملات في الحقل التربوي، إذ كثيرون منهم على أعتاب الدخول في مرحلة الزواج وتكوين الأسرة.
- تربية زوجات العاملين على المسؤولية الزوجية والأسرية والتربوية، فإنَّ العاملين بحاجة إلى أنْ يتوفر لديهم في أسرتهم نموذج خديجة t التي تواسي زوجها وتدفعه إلى العمل وتصبر على لأواء الطريق معه وتحفظه في غيابه وتربي له أبناءه وبناته، وتكون له درعاً يتقي به تجهم الحياة.. تقول له بلسان الحال والمقال: كلا والله لا يخزيك الله أبداً. أليس الله تعالى يقول: (يا نساء النبي لستن كأحد من النساء) فكذلك نساء ورثة الرسول r من طلبة العلم والداعين إلى الله لسن كسائر النساء.
- تنمية مهارات التواصل في كل الاتجاهات، كما أسلفت سابقاً.
- المواساة الاجتماعية والمالية لهذه الأسر، ومنها تنمية مهارات الاقتصاد والادخار، وإيجاد الحلول للمشكلات من هذا النوع، ومساعدتها في تأسيس مشاريع تهدف إلى الاكتفاء الذاتي قدر الإمكان، ونحو ذلك، بغرض إيصالها إلى مستوى الاستعفاف والاستغناء عن ما في أيدي الآخرين. ثمة أفكار ومشاريع موجودة يمكن نمذجتها ويمكن أيضاً إبداع المزيد من الأفكار الخلاقة.
وبعد..
فهذه ورقة تتطلب عقد حلقات النقاش للوصول إلى طريقة في إدارة ترجمتها إلى واقع.
ولا أشك أنها تتطلب جهداً كبيراً في بداية الأمر، سواء على الصعيد النظري أو على الصعيد العملي، لكننا مأجورون بإذن الله؛ إذا احتسبنا الأجر عند الله، واستشعرنا طبيعة العصر الذي نعيش فيه، وبدأنا بالخطوات تلو الخطوات.
وهي لا تعدو كونها وجهة نظر قابلة للتصحيح والتعديل والاستدراك، كل ذلك وارد ولا تثريب فيه على أحد ما دام يملك فيما يصوب حجة وبرهاناً بعيدين عن الهوى والعاطفة.
والله وحده المسؤول أنْ يدلنا على الصواب وأنْ يعصمنا من الزلل وأنْ يهدينا لأحسن العمل، والحمد لله رب العالمين.