الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على إمام المرسلين، وعلى آله وأزواجه وأصحابه أجمعين.
التربية عمود الحضارات. منها تنشأ الحضارات، وبها تقوم، وعلى قدر متانتها يعتمد ارتفاعها، وبثباتها يطول عمرها.
ومنذ اللحظة الأولى التي التقى فيها جبريل بمحمد عليهما الصلاة والسلام في غار حراء تأسس هذا المعنى في أدبيات الدعوة الإسلامية، ولن يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها. بل إنَّ الله تعالى ربى نبيه محمداً r قبل أنْ يبعثه ليهيئه لرفع قواعد الدعوة الإسلامية، ومنْ ذلكم يتمه ورعيه للغنم وعمله في التجارة وسفره إلى الشام وتحمله للمسؤوليات وحياته مع الكبار كعبد المطلب وأبي طالب وتحنثه في غار حراء قبيل مبعثه.
ولم يفتأ فقهاء التربية الإسلامية من متقدمي هذه الأمة ثم متأخريها ثم معاصريها ينقلون لنا علمهم وخبرتهم في هذا الباب من الفنون، مستهدين بهدي القرآن، ومستنين بسنة رسول الله r، فكانت الأمة في كل مرة تغفو يبعث الله فيها هؤلاء الجهابذة ليوقظوا وجدانها وليصححوا مسارها وليغرسوا فيها الفضائل وعاداتِ الخير.
وإني لأعتقد أننا نملك إرثاً تربوياً متين البنية شديد اللمعان، كالبيض اليمانية، لكننا كسالى بما فيه الكفاية، كسالى على مستوى البحث والسبر، وكسالى على مستوى التحليل والتفكير، وقد استعضنا عن كثير منه بالنظريات التربوية الغربية الحديثة.
أتفهَّمُ حاجة الغرب إلى التنظير التربوي، لأنه لا حضارة بدون تربية، وحيث تخلوا عن الشرائع ورفضوا الدين باعتبار العلمانية مرتكزاً من مرتكزات حضارتهم؛ لزم من ذلك تشييد بناء جديد من النظريات ليؤسسوا عليها علومهم وحضارتهم، فكانت التربية بحاجة إلى إنتاج علم يقوم على نظريات جديدة وليدة، فأصاب منها ما أصاب وأخطأ منها ما أخطأ.

لكني لا أتفهم أبداً كل هذا العزوف من بعض شباب الإسلام لما دوَّنه فقهاء التربية الإسلامية، تأصيلاً وتفريعاً، وما قدموه من جهود وأعمال تربوية، تأسيساً وممارسة، واعتقاد أنَّ التربية فنٌّ تفوَّق الغرب علينا فيه، فانكبوا على الإنتاج الغربي يتلقفونه بنَهَم، كالجائع على مائدة الملوك، وكالتائه في طرَف المفازة.
هذا لا يعني – بالتأكيد – التنفير المطلق من تعلُّم التربية الغربية الحديثة، فلستُ أقصد ذلك، ففيها الصواب كما فيها الخطأ، ولكني أقصد أنْ تكون هي قبلة المربي التي يتوجه إليها، وضوءه الذي يستنير به، مُخلِّفاً وراء ظهره أعظم برنامج تربوي، لا يستنير به ولا ييمم وجهه شطره، حتى صرنا كأننا أمة منبتَّة الصلة بالماضي، كأننا بلا جذور، بلا امتدادات، بلا تاريخ.. بل كأننا بلا حضارة، وحتى صرنا كاليتامى في أحضان الغرباء، وكالمساكين في حضرة الأثرياء، فيا ويحنا! كأننا لم ينزل علينا قول الله تعالى: ﴿وَلَا تَهِنُواْ وَلَا تَحۡزَنُواْ وَأَنتُمُ ٱلۡأَعۡلَوۡنَ إِن كُنتُم مُّؤۡمِنِينَ﴾[آل عمران:139]. والله إنَّ ما ورثته حضارة الإسلام من المعارف والفنون التربوية أعلى مما قدمته الحضارة الغربية في ذلك.
كم نحن بحاجة إلى دراسات استقصائية وصفية تحليلية لجهود الخليفة الراشد عمر بن الخطاب t في العمل التربوي! فقد قدم إرثاً هائلاً على مستوى التنظير والتطبيق والممارسة.
كم نحن بحاجة إلى هذي الدراسات عن المدارس الإسلامية في التاريخ الإسلامي: البيئة، والمنهج، والإدارة، المخرجات!
كم نحن بحاجة إلى هذي الدراسات لتاريخ التربية الإسلامية في المدن الإسلامية المهمة، وعبر العصور المختلفة: الكوفة والبصرة ودمشق والفسطاط ومكة والمدينة وحمص وبغداد والقاهرة والقيروان وغرناطة وغيرها…!
وغير هذا كثير. وهنا أقفل القوس لأشير إلى أنَّ حقيقة التجديد تكمن في إظهار القديم على حالته التي كان عليها وهو جديد، بتنقيته مما شابه وبتجليته للناس نقياً صافياً بعد أنْ دُرس وكاد يمحى.
وقد وفقني الله تعالى لكتابة بعض الموضوعات التربوية، بنيتُ كل موضوعٍ منها على قولٍ لأحد فقهاء التربية الإسلامية، ونشرتها تباعاً في مجلة البيان، التي أتاحت لي ذلك مشكورة، فأحببت ضمها إلى بعضها وتنقيحها وإعادة ترتيبها بما هو أكثر مواءمة، ونشرها في كتاب واحد، في عشرين موضوعاً؛ ليست هي على سبيل الحصر، ولربما يسعفني الزمان – بعد توفيق الله تعالى – لتكرار هذا العمل مع طائفة أخرى من درر فقهائنا رحمهم الله.
وسميتها بـ(المذهبات من تراثنا التربوي) وأعني بذلك أنَّ هذه الموضوعات مُذهَّبة بأقوال فقهاء التربية الإسلامية، باعتبار تلك الأقوال التي تنم عن خبرة تربوية من عالم الشريعة: ماء الذهب، الذي يموَّه به المتاع فيصبح مذهَّباً، وكذلك هذه الموضوعات: هي مجرد سطور منثورة، غير أنها اكتسبت التذهيب من تلك الأقوال المأثورة. والحقُّ أنَّ أقوالهم تستحق أنْ تكتب بماء الذهب، فرحمهم الله ورضي عنهم وأرضاهم.
والله تعالى المسؤول أنْ يجعل (المذهَّبات) ذخراً لي أنتفع به يوم الحساب، وأنْ ينفع به قارئه، وأنْ يكتب له القبول عنده، والقبول بين عباده.. آمين.
وكتبه / فايز بن سعيد الزهراني
Fa2526@hotmail.com
غرة ربيع الآخر 1440هـ