حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أتدرون من المفلس؟…) وحديث الذين (يأتون بحسنات كجبال تهامة) وحديث: (أول ثلاثة تسعر بهم النار) وأشباهها من النصوص فيها عِبرة.
هذه العِبرة مفادها أنَّ موازين الدنيا التي يحتكم إليها الناس ويقيمون الأمور والأشياء والناس بناء عليها مختلفة كلياً عن موازين الآخرة، وهذا أمر في غاية الخطورة؛ إذ إنَّ هذه الموازين التي يصطحبها الناس معهم في شؤون حياتهم ويحكِّمونها في أعمالهم وسلوكهم قد تخطئ وقد تغرُّ صاحبها عن ملاحظة موازين الآخرة.
موازين الدنيا تتأثر بالضغط الاجتماعي، وتتأثر بحظوظ النفس، وتتأثر بأنماط الحياة السائدة، بينما موازين الآخرة في غاية العدل والدقة؛ تتلمس الحقائق وتنبذ الزيف والوهم ﴿وَنَضَعُ ٱلۡمَوَٰزِينَ ٱلۡقِسۡطَ لِيَوۡمِ ٱلۡقِيَٰمَةِ فَلَا تُظۡلَمُ نَفۡسٞ شَيۡٔٗاۖ وَإِن كَانَ مِثۡقَالَ حَبَّةٖ مِّنۡ خَرۡدَلٍ أَتَيۡنَا بِهَاۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَٰسِبِينَ﴾[الأنبياء:47].
موازين الدنيا مبنية على ما رأته عينك أو ما سمعته أذنك، وكل ذلك فيه تشويش، إذ يمكن في كليهما الغش والخداع والكذب والتدليس، ألا ترى أنَّه يمكنك أنْ ترائي الناس في أعمالك!
والعبرة هنا هي أنك ربما ابتلعت الطُعم واغتررت بما آل إليه وزنك ووزن أعمالك في الدنيا وظننته موافقاً لميزان الآخرة، فتسمع ثناء الناس عليك – مثلاً – أو تقرأ تقريظهم لمادة تقدمها أو تزكيتهم لعملٍ تديره أو تطرب لتكريمٍ تناله لمؤسسة انتظمت فيها، أو… أو… فتظنَّ أنك – وفق رأيهم فيك – كما يقولون، يتطابق رأيهم مع حقيقتك! بينما النصوص المشار إليها في مستهل التدوينة تدلُّ على أن شريحة من هؤلاء ليسوا كما يراهم الناس وأن ميزانهم الحقيقي الأخروي يدل على خلاف ذلك.
هذا مجاهد في سبيل الله، قد وضع روحه في كفه وألقى بها بين الأسنة والحراب فداء لدين الله تعالى ونصرة للمؤمنين، وسيرته مما تعطر بها المجالس وتطرب لها الآذان، وقد دُوِّن اسمه في الكتب والدواوين .. هذا ميزان الدنيا. لكن الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم أخبر أنه في مقدمة الذين يدخلون النار – عياذاً بالله – وبيَّن أن ثمة أمور قد تلبَّس بها هذا المجاهد قد خفيت على أنظار الناس فسقطت من ميزان الدنيا، لكنها مثبتة في ميزان الآخرة وأحدثت تغييراً في وزن العمل والشخص! (ويؤتى بالذي قتل في سبيل الله، فيقول الله له: في ماذا قُتلت؟ فيقول: أُمرت بالجهاد في سبيلك فقاتلت حتى قُتلت، فيقول الله تعالى له: كذبت. وتقول له الملائكة: كذبت. ويقول الله: بل أردت أن يقال: فلان جريء , فقد قيل ذاك). وهذا والله كاف لوحده أنْ يجعل الخوف من دقائق اليوم الآخر ملازماً للإنسان في حياته ومحركاً له في سلوكه وأعماله.
هذه هي العِبرة الأهم التي ينبغي علينا التيقظ لها والاعتبار بها: عدم الاغترار بموازين الدنيا: ثناء الناس عليك، مديحهم، تزكيتهم، إظهار حبهم، تقديمهم لك، تصديرهم لك، بروزك، قدرتك، قوتك، أعمالك…. إلخ كلها ستكون بلا قيمة إذا لم تتوافق مع الوزن الحقيقي الذي يحمل مقادير دقيقة لدرجة أنها قادرة على وزن الذرة ﴿إِنَّ ٱللَّهَ لَا يَظۡلِمُ مِثۡقَالَ ذَرَّةٖۖ﴾[النساء:40].
هناك عِبرة أخرى تأتي في هذا السياق، وهي أنه لا ينبغي لنا الانشغال بوزن الناس وأعمالهم، فإنَّ أبصارنا وأسماعنا تخطئ، ألا ترى أنَّ قوماً من أهل النار يقولون: ﴿مَا لَنَا لَا نَرَىٰ رِجَالٗا كُنَّا نَعُدُّهُم مِّنَ ٱلۡأَشۡرَارِ ٦٢ أَتَّخَذۡنَٰهُمۡ سِخۡرِيًّا أَمۡ زَاغَتۡ عَنۡهُمُ ٱلۡأَبۡصَٰرُ ٦٣﴾[ص:62-63]. فضلاً عن كون الانشغال بذلك يعد من الانشغال بما لا يعنيك وما لا ينفعك.
فيا رب بصرنا بعيوبنا قبل الفوات، ويسر يا رب حسابنا وثقل موازيننا وتجاوز عن أخطائنا. آمين.