كان المسلمون في صدر الإسلام مشغولين بفتح البلدان ونشر الإسلام، لكنهم بعد أن فتحت الفتوح ومصرت الأمصار ذاقوا طعم الترف والرفاهية وركنوا إلى الفراغ وطلب اللذائذ، يقول ابن خلدون: (فلما جاء الإسلام واستولوا على ممالك الدنيا وحازوا سلطان العجم وغلبوهم عليه وكانوا من البداوة والغضاضة على الحال التي عُرفت لهم مع غضارة الدين وشدته في ترك أحوال الفراغ وما ليس بنافع في دين ولا معاش فهجروا ذلك شيئاً ما. ولم يكن الملذوذ عندهم إلا ترجيع القراءة والترنم بالشعر الذي هو ديدنهم ومذهبهم. فلما جاءهم الترف وغَلب عليهم الرفه بما حصل لهم من غنائم الأمم صاروا إلى نضارة العيش ورقة الحاشية واستحلاء الفراغ. وافترق المغنون من الفرس والروم فوقعوا إلى الحجاز وصاروا موالي للعرب وغنوا جميعاً بالعيدان والطنابير والمعازف والمزامير، وسمع العرب تلحينهم للأصوات فلحنوا عليها أشعارهم. وظهر بالمدينة “نشيط الفارسي” و “طويس” و “سائب بن جابر مولى عبيد الله بن جعفر” فسمعوا شعر العرب ولحنوه وأجادوا فيه وطار لهم ذكر. ثم أخذ عنهم “معبد” وطبقته و “ابن شريح” وأنظاره. وما زالت صناعة الغناء تتدرج إلى أنْ كملت أيام بني العباس عند “إبراهيم بن المهدي” و “إبراهيم الموصلي” و “ابنه إسحاق” و “ابنه حماد”)[1].
لقد أصبح حينها الغناء وظيفة محببة، بل من الوظائف ذات الشأن العالي في بلاط الخلفاء والأمراء، وكانت تصرف لهؤلاء المغنين مرتبات جزلة تبلغ مئات الدنانير من الذهب، لأنهم كانوا يقومون بـ(وظيفة الفراغ والمرح) كما يسميها ابن خلدون، فهم الذين يغنون ويسامرون ويجالسون عِلية القوم ويطربونهم ويصنعون لهم الانتشاء، وبذلك أصبح الغناء مما يحتفى به.
على إثر نزاع وحسد استطاع رؤساء الغناء في بغداد أن يجعلوا (زِرياب) النجم الصاعد يرحل من بغداد إلى الأندلس، من المشرق إلى المغرب، من أحضان دولة بني العباس إلى أحضان دولة بني أمية.
وزرياب هو أبو الحسن، علي بن نافع، (الملقب بزرياب، مولى المهدي العباسي: نابغة الموسيقى في زمنه. كان شاعراً مطبوعاً، عالماً ببعض الفنون من الطبيعي وغيره، عارفاً بأحوال الملوك وسير الخلفاء ونوادر العلماء، اجتمعت فيه صفات الندماء. وكان حسن الصوت. وهو الذي جعل العود في خمسة أوتار، وكانت أوتاره أربعة. أخذ الغناء ببغداد عن إسحاق الموصلي وغيره وغنَّى في صباه بين يدي هارون الرشيد. وسافر إلى الشام، ومنها إلى الأندلس وقد سبقته إليها شهرته، فركب عبد الرحمن ابن الحكم الأموي، بنفسه، لتلقيه. وجعل له في كل شهر مئتي دينار، واستغنى به عمن عداه من الندماء والمغنين، فأقام بقرطبة. وبها اخترع مضراب العود من قوادم النسر، وكانوا يصنعونه من الخشب. وتوفي بها)[2]. وكانت وفاته في القرن الثالث الهجري.
مما يدلَّ على مكانة الغناء والطرب في نفوس الخلفاء والأمراء حينها ما ذكره صاحب المُغرِب أن زرياباً غنى للأمير عبد الرحمن بن الحكم فأطربه جداً فأعطاه الأمير ثلاثة آلاف دينار[3].
بل (إن الأمير عبد الرحمن أمر بصرف مبلغ ثلاثين ألف دينار للمغني زرياب، لكن الخازن موسى بن حدير قال لصاحب الرسائل الذي حمل الأمر إليه: “نحن وإنْ كنا خُزَّان الأمير أبقاه الله، فنحن خُزَّان المسلمين، نجبي أموالهم وننفقها في مصالحهم، ولا والله ما يَنْفُذُ هذا، ولا منا من يرضى أن يرى هذا في صحيفته غداً، أنْ نأخذ ثلاثين ألفاً من أموال المسلمين وندفعها إلى مغنٍّ في صوتٍ غناه. يدفع إليه الأمير أبقاه الله ذلك مما عنده)[4].
وحين استنكر مغني الخليفة المأمون “علويه” قلة العطاء قال: (مولاكم زرياب عند مواليَّ [يقصد الأمويين] يركب في مائة غلام، وأنا عندكم أموت من الجوع!)[5]. ولقد أصاب أهل العلم والفقه دهشة وهم يرون كل هذا الاحتفاء والإكرام للمغني زرياب، حتى قال الفقيه عبد الملك بن حبيب، وقد كان فقيراً:
صلاحُ أَمرى والذي أبتغي
سَهْلٌ على الرحمنِ في قدرتِهْ
ألفٌ مِن الحُمْرِ وأَقْلِلْ بِهـــــا
لِعـــــالمٍ أوْفَى على بُغْيَتِـــــهْ
زريابُ قد يأخذهــــــا دَفْعـةً
وصَنْعَتي أشرفُ مِن صنْعتِهْ
قدوم زرياب إلى الأندلس لم يكن عابراً، فالرجل صاحب مشروع، وقد صادف هزيمة نفسية لدى الأمير عبد الرحمن بن الحكم – كما يذكر بعض الباحثين – إذ أنه كان ينظر إلى البلاط الأميري في بغداد نظرة إعجاب وإكبار فكان يريد أن يصنع بلاطاً يباهي به وينافس به بلاط بغداد، وهذا ما يفسر احتفاءه الشديد بزرياب وتمكينه له.
قدم زرياب فماذا صنع غير منادمته للأمير وغنائه له؟
أسهم في تأسيس “دار المدنيات” وهي مدرسة (أو أكاديمية) تُعنى بالغناء تعلماً وتعليماً وتطويراً وأداءً، وكانت تابعة لحرم القصر الأميري، وسميت بهذا الاسم لأنه جُلب إليها مغنيات من المدينة! كن متفوقات في الغناء!
يقول المؤرخ المصري محمد عبد الله عنان: (وأنشأ بالأندلس مدرسة موسيقية وغنائية باهرة، استطال نشاطها وأثرها حتى عصر الطوائف، وازدهرت أيام الطوائف في إشبيلية في ظل بنى عباد بنوع خاص. وسطع فى مملكة غرناطة قبس من هذه النهضة، وظهر أثر الموسيقى الأندلسية في تطور الموسيقى والغناء، في قشتالة وغيرها من أنحاء أسبانيا في عصر مبكر، ثم انتقل هذا الأثر إلى أوربا، واشتهرت الموسيقى الأندلسية فى غرب أوربا في العصور الوسطى. وبرع المسلمون في العزف على كثير من الآلات الموسيقية المعروفة حتى اليوم، واخترعوا الكثير منها ولاسيما “القيثارة” التي كانوا يعتبرونها أجمل الآلات الموسيقية. وقد اشتهر الرقص الأندلسي بجماله وافتنانه في مجتمعات العصور الوسطى، وما زال شعب غرناطة المرِح الطروب مقبلاً خلال كفاحه الطويل، على حياته المترفة الناعمة، حتى أصبح العدو على الأبواب)[6].
الموسيقى والغناء عندما يكونان بهذا الحجم من الاهتمام وبهذه الكيفية من الزراعة والغرس في المجتمع الأندلسي فإنه من الطبيعي أنْ يرافقهما تحوُّلٌ اجتماعي، أيْ تتغير مظاهر المجتمع وعادات أهله وتقاليدهم، وهذا ما قام به زرياب أيضاً، فقد (أحدث في مجتمع الأندلس تغييراً كبيراً بما أدخله من عادات جديدة، وبما أشاعه من تقاليد راقية، وبما بعثه في المجتمع الأندلسي من روح التأنق والتجمل)[7]. أي أنه استحدث عادات اجتماعية جديدة تتماهى مع هذي الحال الجديدة، عادات في الأكل، وعادات في الملبس، وعادات في الزينة، مطبخ جديد، ومجلس جديد، ومراسم جديدة، وغيرها، مما يمكن تسميته اليوم بالموضات أو الاتيكيت، وإذا أردت التفصيل في ذلك فانظر كتاب (نفح الطيب) فإنك تجد فيه عجباً، ولا يسع هنا التفصيل، وهذا يجعلك تتأكد من تأثير الفن والغناء في تغيير المجتمعات.
وهذه الوظيفة الاجتماعية للفن والغناء مما استحسنه الأمير عبد الرحمن الأموي، وفق منظوره السياسي الإصلاحي، حيث لم تزل قبائل العرب التي استوطنت الأندلس على بداوتها وغلظتها، فكانت رؤيته أنْ تلحق هذه القبائل بركب الحضارة، والتي من شأنها رقة النفوس والطباع، فتقلَّ في الأندلس المنازعات القبلية والعداوات العصبية؛ كما هو الحال في بغداد من الهدوء والأمان اللذَين يرنو إليهما ساسة الأندلس.
كما أنَّ هذا التحول الاجتماعي سيخفف من النظر إلى مظاهر الغناء والمجون بعين الازدراء والنكير، وهذا ما تحتاجه الطبقة المخملية حينها. (ولقد كان من نتائج وفود زرياب وانتشار مستحدثاته الاجتماعية والفنية أن شاع في المجتمع الأندلسي حب الترف والتأنق والأخذ بمتع الحياة، كما شاع كذلك الشغف بالموسيقى والتعلق بالغناء، والتورط أحياناً في اللهو والمجون. وقد ساعد على ذلك تحرر بعض الأمراء في هذه الفترة، مع وفرة الأموال، وانتشار الكروم والترخص في عصر الأنبذة وشربها، ثم كثرة القيان من مشرقيات وإسبانيات، مع وفرة الغلمان وخاصة من الصقالبة. ومما لا شك فيه أن هذا الأمر قد أدى إلى نوع من التحلل الاجتماعي وبعض الشرور التي أصابت الإمارة في هذه الفترة)[8].
لقد تحول سمْتُ المجتمع الأندلسي من مجتمع رسالة وفتح ودعوة إلى مجتمع
غناء وطرب وفنون، وتعاقبت الأجيال على ذلك، فبدأت تتآكل أطراف الأندلس، حتى
نزلت بها الكارثة العظمى على إثر غفلتهم عام 897هـ. فهل يحق لنا بعد هذا
أنْ نوافق الأستاذ محمد المجذوب رحمه الله إذ يقول: زرياب الذي أفسد
الأندلس؟
(1) المقدمة 1/540.
(2) الأعلام 5/28.
(3) المغرب 1/51.
(4) نظم حكم الأمويين ورسومهم في الأندلس 1/376 بتصرف يسير.
(5) تاريخ الطبري 8/657.
(6) دولة الإسلام في الأندلس 5/515.
(7) تاريخ العرب وحضارتهم في الأندلس، ص425.
(8) نفس المصدر.