مدخل
في كتابه الجليل القدر: اقتضاء الصراط المستقيم.. تحدث شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله عن أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفة الأعراب، ولكنه – على طريقته في شمولية البحث – طرح عدداً من المسائل في هذا الباب بغرض تشكيل رؤية شاملة وواضحة عن (الأمر بمخالفة الأعراب) أو (النهي عن التشبه بالأعراب). وسأحاول في هذه التدوينة تلخيص ما نقشه هذا العالم[1].
ابتداءً هذا الكتاب هو بعنوان: (اقتضاء الصراط المستقيم لمخالفة أصحاب الجحيم) والعنوان واضح في مقصود التأليف، وقد تحدث المؤلف عن أمور منها أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمخالفة الكفار والشياطين ثم الأمر بمخالفة الأعراب والأعاجم.
النهي عن مشابهة الأعراب
قال رحمه الله: (ومما يشبه الأمر بمخالفة الكفار: الأمر بمخالفة الشياطين، كما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر رضي الله عنهما أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: “لا يأكلن أحدكم بشماله ولا يشربن بها، فإنَّ الشيطان يأكل بشماله ويشرب بها”.. فإنه علل النهي عن الأكل والشرب بالشمال بأنَّ الشيطان يفعل ذلك؛ فعلم أنَّ مخالفة الشيطان أمر مقصود مأمور به، ونظائره كثيره.
وقريبٌ من هذا: مخالفة من لم يكمل دينه من الأعراب ونحوهم، لأن كمال الدين: الهجرة، فكان من آمن ولم يهاجر – من الأعراب ونحوهم – ناقصاً، قال الله سبحانه وتعالى: “الأعراب أشد كفراً ونفاقاً وأجدر ألا يعلموا حدود ما أنزل الله على رسوله”.
وذلك مثل ما رواه مسلم في صحيحه عن ابن عمر قال: “لا تغلبنكم الأعراب على اسم صلاتكم، ألا إنها العِشاء، وهم يعتمون بالإبل”. ففي الحديث النهي عن موافقة الأعراب في ذلك). انتهى.
في هذا السياق فرَّق بين التشبه بالكفار والشياطين والتشبه بالأعراب، وجعل التشبه بالأعراب قريباً – وليس مساوياً – من التشبه بالكفار والشياطين. فهو يقول: (ومما يشبه الأمر بمخالفة الكفار: الأمر بمخالفة الشياطين) ثم يقول: (وقريبٌ من هذا: مخالفة من لم يكمل دينه من الأعراب ونحوهم). وفي نفس السياق يذكر أنَّ للأعراب دين، لكنه لم يكتمل بسبب امتناعهم عن الهجرة.
هل الأعرابية مذمومة أم محمودة؟
في تفصيله عن الفرق بين التشبهين، يقول: (وذلك أنَّ نفس الكفر والتشيطن مذموم في حكم الله ورسوله وعباده المؤمنين، ونفس الأعرابية والأعجمية ليست مذمومة في نفسها عند الله تعالى وعند رسوله وعند عباده المؤمنين).
فهو لا يرى أنَّ الأعرابية مذمومة في حدِّ ذاتها كما هو الحال في الكفر والتشيطن، أي أنه قد يتلبسها الذم وقد يتلبسها المدح بحسب حال صاحب الصفة الأعرابية من الإيمان والعمل. قال رحمه الله: (بل الأعراب منقسمون إلى أهل جفاء، وإلى أهل إيمان وبر) واستدل على القسم الأول بقوله تعالى: “ومن الأعراب من يتخذ ما ينفق مغرماً ويتربص بكم الدوائر” واستدل على القسم الثاني بقوله تعالى: “ومن الأعراب من يؤمن بالله واليوم الآخر ويتخذ ما ينفق قربات عند الله وصلوات الرسول ألا إنها قربة لهم سيدخلهم الله في رحمته”.
وهو يرى أن هذا التقسيم يَحدث نفسه مع أهل الأمصار والمدن، كما قال تعالى: “وممن حولكم من الأعراب ومن أهل المدينة مردوا على النفاق لا تعلمهم نحن نعلمهم سنعذبهم مرتين ثم يردون إلى عذاب عظيم”. وقال في سياق ذلك: (وعامة سورة التوبة فيها الذم للمنافقين من أهل المدينة ومن الأعراب، كما فيها الثناء على السابقين الأولين من المهاجرين والأنصار والذين اتبعوهم بإحسان، وعلى الأعراب الذين يتخذون ما ينفقون قربات عند الله وصلوات الرسول).
وبعد تفصيلٍ ذكر قاعدة مهمة في هذا الباب: (أنَّ العبرة بالأسماء التي حمدها الله وذمها، كالمؤمن والكافر والبر والفاجر والعالم والجاهل) أي أن هذه تحمد وتذم لذاتها، لذات الإيمان ولذات الكفر ولذات البر ولذات الفجور ولذات العلم ولذات الجهل. ولذلك فقد (كان من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ممن وفد عليه ومن غيرهم من الأعراب من هو أفضل من كثير من القرويين).
أين تكمن الأفضلية الحقيقية؟
يجيب رحمه الله فيقول: (الفضل الحقيقي: هو اتباع ما بعث الله به محمدا صلى الله عليه وسلم من الإيمان والعلم باطناً وظاهراً، فكل من كان فيه أمكن كان أفضل) سواءً كان مدنياً أو أعرابياً.
ويشرح ذلك فيقول: (والفضل إنما هو بالأسماء المحمودة في الكتاب والسنة مثل: الإسلام، والإيمان، والبر، والتقوى، والعلم، والعمل الصالح، والإحسان، ونحو ذلك، لا بمجرد كون الإنسان عربياً، أو عجمياً، أو أسود، أو أبيض، ولا بكونه قروياً، أو بدوياً).
إذن.. لِمَ كان النهي عن مشابهة الأعراب؟
يقول رحمه الله مبيناً وجه النهي عن مشابهة الأعراب: (أن الله سبحانه وتعالى جعل سكنى القرى يقتضي من كمال الإنسان في العلم والدين ورقة القلوب ما لا يقتضيه سكنى البادية، كما أن البادية توجب من صلابة البدن والخلق ومتانة الكلام مالا يكون في القرى، هذا هو الأصل، وإن جاز تخلف هذا المقتضى لمانع؛ وكانت البادية أحيانا أنفع من القرى.
وكذلك جعل الله الرسل من أهل القرى، فقال تعالى: “وما أرسلنا من قبلك إلا رجالاً نوحي إليهم من أهل القرى” وذلك لأن الرسل لهم الكمال في عامة الأمور.. وهذا الأصل يوجب أن يكون جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية. وإن كان بعض أعيان البادية أفضل من أكثر الحاضرة).
إذن هو ينتقل إلى تقعيد أنَّ جنس الحاضرة أفضل من جنس البادية، لكن ذلك يكون بغضِّ النظر عن الأعيان. عليك أن تتنبه بأن هذه المفاضلة لا تقتضي حمداً ولا ذماً.
وعلى هذا لا يصح لمز جنس الأعراب لمجرد ذلك أو التعرض له بالذم، كما لا يصح الفخر به، والأمر نفسه يسري على جنس الحاضرة.
ما هو ضابط التشبه المنهي عنه بالأعراب؟
يقول رحمه الله: (ما انفرد به البادية عن جميع جنس الحاضرة، أعني في زمن السلف من الصحابة والتابعين، فهو ناقص عن فضل الحاضرة أو مكروه. فإذا وقع التشبه بهم فيما ليس من فعل الحاضرة المهاجرين كان ذلك إما مكروهاً أو مفضياً إلى مكروه).
وهذا ضابط مهم، إذ يربط التشبه والمخالفة بحالة معيَّنة لها وقتها وناسها؛ وهي حاضرة المدن والأمصار في زمن السلف من الصحابة والتابعين، وليس أي حاضرة في أي زمان. كما يربطه بالتفرد أي أنْ يكون هذا الأمر من خصائصهم، بمعنى أن النهي لا يشمل ما كان مشتركاً بين أهل البادية وأهل الحاضرة، وهذا يعني أن جزءاً ليس بالقليل من أخلاقهم وفعالهم لا تدخل في النهي عن المشابهة لأنها مشتركة وليست متفردة بأهل البادية.
فيكون المعنى: ما انفردت به أي بادية عن الحاضرة التي كانت في زمن الصحابة والتابعين فنحن منهيون عن التشبه به، ولو اتفقت عادة من عوائد بادية ما في زماننا مع عادة من عوائد حاضرة الصحابة أو التابعين فلسنا بمنهيين عن التشبه به؛ ولو خالف عادة الحواضر في زماننا.
أرجو أن أكون قد وفقت في هذا التلخيص، والله أعلم.
[1] الكتاب في جزئين، من منشورات مكتبة الرشد ط الرابعة 1414هـ.