قراءة في رسالة شهاب الدين ابن مُرِّي لطلاب وأصحاب شيخ الإسلام ابن تيمية
[العبارات التي تحتها خط هي من كلام شهاب الدين ابن مري رحمه الله]
أتذكر في 1435هـ: ظهر إعلانٌ لصدور الطبعة الثانية من كتاب (التعليق على صحيح مسلم) للعلامة الفقيه محمد بن صالح بن عثيمين رحمه الله تعالى. كان لهذا الإعلان دوي في وجداني، لم أنسَ ذلك.. الشيخ توفاه الله تعالى عام 1421هـ، ثم هو بعد وفاته بأربعة عشر عاماً يُعلَن عن مادة علمية له تظهر في المكتبات، ويتسابق طلبة العلم لاقتنائها!
هل الشيخ ابن عثيمين هو الميت أم أنا؟ من الحي فينا؟
ما سر بقاء النشاط العلمي له بعد موته؟ أهو توفيق الله تعالى؟ أم هي خبيئة صالحة؟ أم حسن تربية لطلابه؟ أم وعي طلابه بما ينبغي عليهم تجاه علمه؟ أم كل هذه الأمور مجتمعة كان لها هذا الأثر الطيب؟
أيًّا ما كان الأمر .. فمؤسسة الشيخ ابن عثيمين الخيرية ومنتجاتها العلمية تعدُّ نتيجة فريدة للأفكار الاستراتيجية في نشر العلم الشرعي.
سنناقش في هذه السطر مسألة الأفكار الاستراتيجية في نشر العلم الشرعي، من خلال تحليل رسالة شهاب الدين ابن مُرِّي رحمه الله..
رسالة ابن مري، وفكرتها
نشر الشيخ محمد حامد الفقي رحمه الله في “مجموعة رسائل علمية” رسالة قصيرة كتبها أحد تلاميذ شيخ الإسلام ابن تيمية بعد وفاته مخاطباً بها إخوانه وزملاءه في الطلب، وهو شهاب الدين أحمد بن محمد بن مُرِّي الحنبلي رحمهم الله جميعاً.
ثم أعاد نشرها محمد عزير شمس وعلي بن محمد العمران في الكتاب الحافل “الجامع لسيرة شيخ الإسلام ابن تيمية خلال سبعة قرون” في ثمان صفحات.
رسالة شهاب الدين ابن مري رحمه الله تدعو طلاب شيخ الإسلام ابن تيمية وأصحابه الذين كانوا محتفين به وبعلمه وتقريراته في حياته إلى جمع علمه ونشره، وفق رؤية استراتيجة، وخطط إجرائية تضمن تحقيق هذين الهدفين. وهما هدفان مترابطان.. في الوقت الذي كانت فيه أفكار شيخ الإسلام ملقى بها في قفص الاتهام لدى شريحة كبيرة من أهل العلم، وتعاني من إقصاء غير مبرر.
التفكير الاستراتيجي عند ابن مري
يتضح من الرسالة أن المعطيات التي نظر إليها شهاب الدين ابن مري أوصلته إلى رؤية استشرافية مستقبلية فهو يعتقد بأنَّ علم ابن تيمية سينتشر بعد ردحٍ من الزمن إذا تمت الشروط، يقول رحمه الله: (واللهِ إن شاء الله ليقيمن الله سبحانه لنصر هذا الكلام ونشره وتدوينه وتفهمه، واستخراج مقاصده، واستحسان عجائبه وغرائبه رجالاً هم إلى الآن في أصلاب آبائهم).
ويقول رحمه الله: (فإن يسر الله تعالى وأعان على هذه الأمور العظيمة صارت إن شاء الله تعالى مؤلفات شيخنا ذخيرة صالحة للإسلام وأهله، وخزانة عظيمة لمن يؤلف منها وينقل، وينصر الطريقة السلفية على قواعدها، ويستخرج ويختصر إلى آخر الدهر إن شاء الله تعالى).
كأنَّ شهاب الدين ابن مري كان ينظر إلى الغيب من وراء ستر رقيق يشف عنه، لكن الحقيقة أن التفكير الاستراتيجي الذي يستند إلى المعطيات الصحيحة، ويضع الشروط أو ما يمكن تسميته بـ(الإجراءات) الصحيحة، سيشكِّل النتيجة المطلوبة بعد توفيق الله تعالى: وهي تكوين رؤية وحلم يمكن الوصول إليه. فما هي هذه المعطيات؟ وما هي الإجراءات المقترحة؟ وكيف يمكن ضبطها؟
المعطيات (المدخلات)
في واقع الأمر أن ثمة فرصاً ضائعة لم نستثمرها كما ينبغي، لأننا لم نلتفت إليها، أو لأننا كنا مشغولين عنها، والأدهى من ذلك أن نمتلك نقاط قوة داخل صفوفنا، لكننا لا نعبأ بها لسبب أو لآخر، ربما للانهماك في الإجراءات والأعمال، وربما خوفاً من فساد النية، أو لأننا لا نعرف حجم نقاط القوة هذه، أو لغيرها من الأسباب. والواجب على أهل الصف الواحد سواء كانوا مؤسسات أو حلق علم أو أن تفطن لهذا الأمر كما فطن له شهاب الدين ابن مري رحمه الله تعالى.
لقد نظر شهاب الدين في عدة أمور يمكن تلخيصها من خلال رسالته إلى ما يلي:
1- توافر الخبراء. أعني الخبراء بعلم شيخ الإسلام ابن تيمية على اختلاف مسارات الخبرة، والتي ينبغي الإفادة منهم فيها. وهم:
· أبو عبد الله ابن رُشيِّق المالكي، رحمه الله. ويتميز عن أقرانه من تلاميذ شيخ الإسلام (بما عنده من الذخائر والنفائس) من كتب وتقريرات ومؤلفات، فهو مهتم بهذا الشأن غاية الاهتمام، وهو أعرف التلاميذ بكتب شيخ الإسلام و (أخبر الجماعة بمظان المصالح المفردة التي قد انقطعت مادتها).
· الحافظ جمال الدين المزي، رحمه الله. (لثقته وخبرته وشفقته وتحرقه على ظهور هذه المواد الصالحة، ولسعة علمه وإحاطته بكثير من مقاصد شيخنا المؤلف).
· القاضي شرف الدين بن عبد الله، رحمه الله.
· الحافظ شمس الدين بن قيم الجوزية، رحمه الله. وهذان (الشيخان العالمان الفاضلان المحققان) تميزا عن أقرانهما بأنهما (أحذق الجماعة على الإطلاق في المناهج العقلية وغيرها، وأذكرهم للمباحث الأصولية).
2- المضامين الفريدة لمؤلفات شيخ الإسلام. من مؤلفات كبار ومسائل صغار (ومن نسخ الفتاوى المتفرقة، وسائر كلامه الذي قد ملئ، ولله الحمد، من الفوائد والفرائد والشوارد) ومن أبرز ما اعتنى به شيخ الإسلام (الرد على الفلاسفة) فكسر شوكتهم العلمية، والرد على الرافضة، فنقض شبهاتهم واستدلالاتهم من أسِّها، (وقد عُلِم أنَّ لكتبه من الخصوصية والنفع والصحة والبسط والتحقيق والإتقان والكمال، وتسهيل العبارات، وجمع أشتات المتفرقات، والنطق في مضايق الأبواب، بحقائق فصل الخطاب، ما ليس لأكثر المصنفين في أبواب مسائل أصول الدين، وغيرها من مسائل المحققين…).
3- السنن الكونية الجارية. استنبط شهاب الدين من مجموع الأدلة ومن التاريخ بعض السنن التي دلته على إمكان خلود علم شيخ الإسلام ابن تيمية. منها:
· (قال النبي صلى الله عليه وسلم: “لا يزال الله يغرس في هذا الدين غرساً يستعملهم فيه بطاعته”. وقال: “لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق، لا يضرهم من خذلهم ولا من خالفهم حتى تقوم الساعة”).
· التاريخ يثبت أن المجددين يُكتب لعلمهم الانتشار والبقاء، فهذا (الإمام أحمد بن حنبل كان ينهى في حال حياته عن كتابة كلامه، ليجمع القلوب على المادة الأصلية العظمى، ولما توفي استدرك أصحابه ذلك الأمر الكبير، فنقلوا علمه وبينوا مقاصده، وشهروا فوائده، فانتصرت طريقته، واقتفيت آثاره لأجل ذلك، والوجود هو على هذه الصفة قديماً وحديثاً. ومن المعلوم أن البخاري مع جلالة قدره أخرج طريداً، ثم مات بعد ذلك غريباً، وعوضه الله سبحانه عن ذلك بما لا خطر في باله، ولا مرَّ في خياله، من عكوف الهمم على كتابه، وشدة احتفالها به، وترجيحها على جميع كتب السنن…).
من هذه المعطيات استنتج شهاب الدين ظهور علم شيخ الإسلام وانتشاره عبر الأجيال والقرون، فهو يرى أنَّ (جميع ما وقع من هذه الأمور فيه من الدلالة إن شاء الله على شمول أمره، وظهور كلمة هذه العلوم الباهرة أكثر مما فيه من الدلالة على خلاف ذلك).
خطة العمل
شهاب الدين ابن مري لم يُخْلِ رسالته من طرح خطة عمل تتضمن مجموعة من الإجراءات والتقنيات المؤدية لتحقيق الهدف: جمع علم شيخ الإسلام ونشره. وهذه الإجراءات والتقنيات:
- كتابة مؤلفاته الصغار والكبار، كما هي من غير تصرف فيها.
- تكثير النسخ من مؤلفاته.
- جمع النظائر والأشباه من فتاويه ورسائله في موضع واحد.
- الإفادة في ذلك من كل العلماء الذين لديهم نسخ ومؤلفات.
- تفريغ ابن رشيق المالكي لهذه المهمة، والتكفل بمساعدته ليتفرغ لهذا الشأن.
- مقابلة كل ما يكتب وتصحيحه وتقييمه من قِبل ابن رشيق المالكي.
- يقوم جمال الدين المزي بمراجعة ما كُتب وجُمع.
- يقوم القاضي شرف الدين وابن القيم بالمراجعة بغرض التثبت من الحفاظ على المعاني والمقاصد وسلامتها من التصحيف.
- الاستعانة بالله ودعائه وطلب معونته.
درسٌ تربوي
لا شك أن رسالة شهاب الدين ابن مري رحمه الله – بإيجازها وسعة مضمونها – درس تربوي لطلبة العلم في التفكير الاستراتيجي في نشر العلمي الشرعي بالذات، وما ينبغي عليهم تجاه حفظ الدين بتثبيت وتخليد العلم السلفي. تأمل توزيع الأعمال على الطاقات حسب اتجاهاتهم وما تفوقوا فيه، وتأمل صناعة الرؤية البعيدة والحلم الذي يصعب على أهله أن يصدقوا وقوعه في وقته. لقد اندثرت، أو كادت، تواليف شيخ الإسلام في ذلك الزمن، أما اليوم فإنها في كل زاوية، وأما فِكره فقد اخترق الحجب؛ فتجد على كل لسانٍ عبارةً لابن تيمية أو فكرة له. إنها رسالة تستوقف القراء وطلاب العلم على وجه الخصوص وتصنع السؤال الآتي:
ما هي استراتيجياتكم العلمية؟