يستمد المربي وهجه من ثلاثة أمور، أشار إليها القرآن الكريم في عدد من السور والآيات. وهي في الواقع ليست خاصة بالمربين بل لكل داعية ومصلح.
الأمر الأول: القراءة
وهو أولها في الترتيب والأهمية، قال الله تعالى في أول آية من القرآن الكريم: (اقرأ باسم ربك الذي خلق . خلق الإنسان من علق . اقرأ وربك الأكرم . الذي علم بالقلم . علم الإنسان ما لم يعلم)[العلق:1-5].
القراءة سبيل العلم وطريقه، والعجيب أن جبريل حين قال: اقرأ. كان نبينا صلى الله عليه وسلـم يجيبه: ما أنا بقارئ، فيكرر جبريل الأمر، فيجيبه النبي: ما أنا بقارئ. وفي كل مرة يغطه جبريل بشدة، لأن المسألة مهمة، فيقول له: (اقرأ باسم ربك الذي خلق) الآيات.
القراءة أول مشعل يبعث على توهج المربي وإضاءته ودفئه.. أول سبيل إلى قوته وقدرته وجاهزيته، القراءة قبل كل شيء، والتعلم قبل كل شيء. قال البخاري: (باب العلم قبل القول والعمل).
القراءة في الجوانب الشرعية، والقراءة في التاريخ الإسلامي القديم والمعاصر، والقراءة في التخصص التربوي، والقراءة في العلوم المتعلقة بأعمالك التربوية.. كل ذلك من واجبات المهنة؛ على الأقل.
ولا يمكن الاستغناء عن القراءة والتعلم بغيرهما كصلاح المربي وقوته التواصلية على سبيل المثال، وليس هذا فحسب، بل إنَّ الله تبارك وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وسلـم أن يستزيده من العلم، فقال موجهاً له: (وقل رب زدني علما)[طه:114].
والمربي الذي ليس له برنامج يقرأ فيه ويتعلم به أبتر منطفئ، لا يستطيع حل المشكلات ولا معالجة النوازل ولا ترتيب الأولويات. بل لا يستطيع أن يرتقي بنفسه ولا أن يدفع الجهل عنها.
والمربي الذي عزف عن القراءة لا يملك المعلومات ولا يعرف سياقها وهو محروم من توظيفها.
والمربي الذي عزف عن القراءة لا يستطيع أن يخرج طلاب العلم ولا محبي المعرفة ولا عاشقي القراءة، ففاقد الشيء لا يعطيه.
والمربي الذي عزف عن القراءة لا يبني العقول الذكية ولا يؤسس للتفكير السليم وطلابه صيدٌ سهل للأفكار الضالة والمنحرفة.
العلم سلاح المربين، والقراءة زاد عقولهم، فمتى كانا محل عناياتهم استطاعوا أنْ يبنوا أحسن المحاضن التربوية وأقواها، وأن يخرجوا أذكى الطلاب وأعلمهم. ومتى كان العلم والقراءة محل إهمالهم فسيضعفون إلى حد الانطفاء؛ فلا وهج في المحضن التربوي ولا نور يستضيئون به.
لست أعني هنا أن تكون عالماً لا يشق له غبار، وإنما أعني – تحديداً – أن يكون لك برنامجك العلمي المستمر، الذي تسلكه ولا تقطعه حتى الممات، من القراءة والجلوس إلى شيوخ العلم الأثبات، وتلخيص الدروس، وبناء قاعدة علمية تؤسس عليها قراءاتك الحرة وأبحاثك الخاصة.
لا بد من هذا.
لا بد من برنامج خاص بك تترقى به مدارج العلم، خطوة خطوة، بمنهجية سليمة، وحرص شديد.
أتظن أن القوم سبقوا بدون ذلك؟
هذا الإمام المبجل أحمد بن حنبل يُرى من دكاكين السوق، وهو في كبر سنه، وهو يسابق الغلمان إلى الدرس مسرعاً، ونعلاه في يده. فيأخذ أبو محمد، إسماعيل الصائغ بمجامع ثوب الإمام أحمد، فيقول: (يا أَبا عبد الله! أَلا تستحي! إلى متى تعدو مع هؤلاء الصبيان؟ قال: إلى الموت)([1]).
أخي المربي.. تنبَّه لهذه المسألة المهمة التي جعلها الله تعالى أول توجيه للنبي صلى الله عليه وسلـم، ودع عنك الاعتذار بقلة الوقت والانشغال بالجهد التربوي، فإنها مسألة حيوية تقوم عليها حياتك العملية وتموت، وتقوم عليها حياة العمل التربوي وتموت.
لو لم يتعلم رسول الله صلى الله عليه وسلـم لما استطاع أن يبلغ رسالة الله، ولذلك امتن الله عليه فقال: (وعلمك ما لم تكن تعلم وكان فضل الله عليك عظيماً).
الأمر الثاني: الخلق العظيم
قال الله تعالى في السورة التي رُبط فيها القلم بالأخلاق: (ن والقلم وما يسطرون . ما أنت بنعمة ربك بمجنون . وإن لك لأجرا غير ممنون . وإنك لعلى خلق عظيم)[القلم:1-4].
هذه الآيات نوَّهت بخلق النبي صلى الله عليه وسلـم الذي هو آداب القرآن([2]). فكانت أخلاق النبي العظيمة التي أدبه الله تعالى بها مشعلاً آخر يمده بالوهج، ولقد خضعت قريش لأخلاق هذا النبي الكريم صلى الله عليه وسلـم.
فإذا أراد المربي أنْ يكون ذا وهج يضيء فعليه بهذا المشعل الوهاج: الأخلاق الكريمة والآداب القرآنية، فإنها ستصنع له وهجاً يستطيع به أنْ يبدد به ظلمات الواقع الاجتماعي المنحط.
المربي الخلوق له جاذبية مغناطيسية تجعل الآخرين يلتفون حوله، ويديمون النظر إليه، وبهذا تترسخ كثير من المعاني والقيم والآداب؛ بمجرد النظر إلى هذه الهالة العجيبة من الخلق العظيم. ألم تر إلى قول الله تعالى: (فبما رحمة من الله لنت لهم ولو كنت فضاً غليظ القلب لانفضوا من حولك)[ آل عمران: 159]؟
والمربي الذي يعتوره الجفاء وتكسوه النقائص هو مدعاة إلى تسرب الطلاب من بين يديه، وإلى هروب الناس من الباب الخلفي، إذ لا قيمة للعلم إذا لم يزينه الأدب، هذا الأمر كما هو معروف لدى الكبار فهو موجود بالفطرة لدى الصغار.
الأمر الثالث: برنامج التعبد الخفي
قال الله تعالى: (يا أيها المزمل . قم الليل إلا قليلا . نصفه أو انقص منه قليلا . أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا . إنا سنلقي عليه قولا ثقيلا)[المزَّمل:1-5].
في هذه الآيات الأمر بالتعبد، بالالتزام بالعبادة الخفية، بالورد المستمر من الاتصال بالله، بزاد الروح: القيام لله بالصلاة والذكر وقراءة القرآن، إذ بها تقوى النفس وتستمد وهجها وتهذب طباعها وتزيد في إيمانها وتجدد علاقتها بالله.
المربي المتعبد له هالة نورانية تظهر على جوارحه وهيئته وسلوكه، فالزاد الإيماني من الصلاة والذكر وتلاوة القرآن تطبع أثرها – ولا شك – على سلوك المربي وتصوراته وعزيمته.
والمربي المتعبد يوفقه الله للثبات على ما هو عليه من الاستقامة والتربية عليها وتجاوز العقبات المعترضة في طريقها.
والمربي المتعبد يوفقه الله تعالى للبصيرة بالحق والصواب، بل الأفضل والأخير من الأمور، بل والفراسة والاستشراف.
والمربي الذي ليس له حظ من التعبد: مربٍ أبتر، منطفئ، يدعو الناس إلى ما لا يستطيع هو القيام به، ويقرأ الناس فيه عبارة مفادها: لو كان ما تدعونا إليه مقدوراً عليه لاستطعتَ أنت القيام به قبلنا.
فواجب على المربي أنْ يديم مجاهدة نفسه في سباق المتعبدين والقائمين والقانتين والذاكرين، كم من سيرةٍ ذُهِّبت بقول الذهبي رحمه الله في كتابه الجليل القدر سير أعلام النبلاء: (وكان تلاء لكتاب الله).. لذلك عظم أثرهم على أصحابهم وعلى أمتهم.
هذه الثلاثة أمور مجتمعة هي التي تصنع للمربي وهجاً، وتحوله إلى مشعلٍ يضيء للناس أينما حل وأينما ارتحل، وكلما ازداد في شيء منها ازداد وهجه بالضرورة، وكلما أقلَّ من شيء منها خفت شيء من وهجه بقدره.
والتربية ليست مسألة قضاء وقت واستئناس بالناس، بل هي واجب له تبعة، ومهمة لها مقتضيات.
هذه الثلاثة أمور: القراءة ثم الخُلق ثم التعبد الخفي جاءت بها أول ثلاث سور نزلت من كتاب الله العزيز المحكم، وبعدها جاء الأمر الصريح بالدعوة إلى الله وإنذار الناس في سورة المدثر: (يا أيها المدثر . قم فأنذر)[المدثر:1-2]. كما جاء في رواية جابر بن زيد: (أول ما أنزل الله من القرآن بمكة: اقرأ باسم ربك، ثم ن والقلم، ثم يا أيها المزمل، ثم يا أيها المدثر ثم ….)([3]).
وهذا القرآن الكريم لا تنقضي عجائبه، فحين أخبرنا الله تعالى بماهية الوظيفة النبوية التي بعث بها محمدا صلى الله عليه وسلـم في قوله تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[آل عمران:164] علِمنا أنه لم يبعثه كذلك إلا بعد توجيهه بالقراءة والتعلم والأخلاق والآداب والتعبد له عز وجل، باعتبارها عناصر تأهيلية للقيام بتلك الوظيفة الشريفة، كما فهمنا من ترتيب السور في رواية جابر بن زيد رحمه الله.
فمن رام وهجاً فعليه بهذه المشاعل
الثلاث مجتمعة، وعندها أبشر بالمخرجات الطيبة وبالجهود المؤثرة.
[1] مناقب الإمام أحمد ص36.
[2] نقله عن الحسن في تفسير البغوي 8/187.
[3] الإتقان في علوم القرآن 1/ 53.
يجب التنشاه والتعليم من الصغر
إعجابإعجاب