في سياق آيات من كتاب الله تعالى كثيراً ما تستدر وجداننا حين نتلوها، قال تعالى: (وهي تجري بهم في موج كالجبال ونادى نوح ابنه: يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين . قال: سآوي إلى جبل يعصمني من الماء قال: لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم وحال بينهما الموج فكان المغرقين).
آيتان تحكي حواراً أليماً ظهرت فيه الأبوة والعناد، والإيمان والكفر، والعلم والجهل. وهما من الوضوح بمكان، فلست بحاجة إلى تناول كتاب في التفسير لفهم معانيهما.
لكننا بصدد الوقوف عند بعض الدلالات التي أمدتنا بها هذه القصة الموجعة:
أولاً: فك التلازم بين صلاح الوالد وصلاح الولد
تظهر قصة ابن نوح أنْ لا تلازم بين صلاح الوالد وولده، أعني أنه ليس بينهما علاقة شرطية؛ بحيث إذا صلح الوالد لزم من صلاحه صلاح الولد، خلافاً لما يعتقده البعض. فهذا نوح النبي وهو أحد أولي العزم الخمسة من الرسل، ومع ذلك فإن ابنه كافر معاند أغرقه الله في جملة الكافرين.
صلاح الأولاد ليس استحقاقاً يناله الوالد مقابل تربيته الجيدة لولده، وليس مكافأة لازمة لسلوكه طريق الاستقامة، بل هو فضل منة من الله تعالى، يمن بها على من يشاء من عباده، ولذلك فإن هؤلاء المؤمنين – كما أخبر الله عنهم – يلجأون إلى الله تعالى في دعائهم فيقولون: (ربنا هب لنا من أزواجنا وذرياتنا قرة أعين).
ولذلك فإن أحد أنواع الابتلاءات التي يبتلى بها المؤمن أن يكون حبيبه أو حبيبته ممن يتنكبون الصراط المستقيم، فأبو إبراهيم وزوجتا نوح ولوط وعم نبينا عليهم الصلاة والسلام من الكافرين الذين رفضوا الهداية، بل إن المولى تبارك وتعالى قال لرسولهr : (إنك لا تهدي من أحببت ولكن الله يهدي من يشاء).
والمهم في هذه الحالة أن يبذل الوالدان جهدهما في هداية الولد، وليس عليهما النتيجة. وبالتالي فإن الأصل أن البذل عليك والهداية على الله، فإذا أذن الله بها هيأ لها الأسباب، فيقع الناظر في الوهم فيظن أن ذلك الذي أقر الله عينه بصلاح ولده هو أفضل من الآخر أو أكثر طاعة لله أو أحسن تربية من غيره. وهذا قصور في فهم طبيعة الهداية: نور يقذفه الله في القلب.
ألا ترى أن نوحاً بذل كل طاقته في استنقاذ ولده، حتى بعد غرق ولده لم يكفَّ نوح، وهو الأب الرحيم، عن البذل فقال لربه تعالى: (ربّ إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) فهو يرجو أن يكون ابنه ضمن أهله الذين وعد الله بإنجائهم، لكن الله تعالى عاتب نوحاً على هذه المسألة، مبيناً له أن هذه النقطة ليست من شأنه هو، إنها من اختصاص الله تعالى، وإنما عليه البلاغ والدعوة: (قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح فلا تسألنِ ما ليس لك به علم إني أعظك أن تكون من الجاهلين). ومن هنا نستطيع أن نفرق ما بين ما هو من شأننا في تربية الأولاد وما هو ليس من شأننا.
نعم هناك عوامل تفضي إلى هدايتهم، كصلاح الوالد، وحسن التربية والتوجيه، وصلاح الابن الكبير، والدعاء الدائم لهم، لكنها لا تنهض لأن تكون – ولو اجتمعت – هي الأصل في الهداية.
بناء على ما تقدم فإن على الوالدين أن يعلموا أن ما يحدث من قدر الله عليهم بانحراف ولدهم هو ابتلاء من الله تعالى يمتحن الله به صبرهم ورضاهم عنه، ويرفع به درجاتهم ومنزلتهم عنده، ويمنحهم به الفرصة للجوء إليه والتبرؤ من حولهم وقوتهم في هداية ولدهم، ويقفهم به على مواطن الخلل – إن وجد – ليراجعوا طرائقهم التربوية.
إن تربية الأولاد في البيت ليست كتربيتهم في المحاضن والمؤسسات التربوية، إنها نوع مختلف من المعاناة والمعايشة والتحمل والصبر.
ثانياً: فساد الولد ليس دليلاً على فساد مسيرة الوالد الدعوية
قد يخطر على بال البعض أن فساد الولد دليل على فساد دعوة الوالد وتربيته أو فساد منهجها أو طرائقها، وهذا قد يظن أنه صحيح منطقياً لكن آيات القرآن لم تدل عليه.
والمهم في هذي النقطة أنه حين يبتلى أهل الدعوة والتربية والتعليم والإصلاح بفسادٍ في أولادهم، فإن عليهم ألا يتوقفوا وسط الطريق حزناً وكمداً وإحباطاً.. وألا ينظروا إلى أنفسهم نظرة سلبية تسرق نجاحاتهم التي يعرفونها وتغمط إسهامهم الذي قدموه. ألا ترى أن نوحاً عليه السلام من أولي العزم من الرسل! ما وهن وما ضعف لأن ولده غريق كافر، ولم ينعزل لأن زوجته خانته في دينه فصدت عن سبيل الله وناصرت الكفار من قومها.
إن هذه القصة لتبعث في النفس العزيمة على التكليف، والثبات على الطريق، والاستمرار على البرنامج، أو هكذا ينبغي، ذلك أن أصل هذا العمل مما يبتغى به وجه الله والفوز بدرجات الجنة العالية والنجاة من عذاب النار، فإذا استشعر الوالد هذا الأمر هان عليه كل ألم لأنه موعود بالأجر العظيم من الله تعالى.
وإن كان نوح عليه السلام ابتلي بكفر الولد والزوجة فإن الله أكرمه بعدها بأن تكون الرسل والأنبياء من بعده من ذريته، قال تعالى: (ونجيناه وأهله من الكرب العظيم . وجعلنا ذريته هم الباقين . وتركنا عليه في الآخرين . سلام على نوح في العالمين . إنا كذلك نجزي المحسنين). فسماه الله محسناً وكافأه على إحسانه.
ثالثاً: عقلان لا يتشابهان
ألم يستوقفك كل هذا الغباء من ابن نوح؟ إذ يرى السماء تصب ماءها والأرض تفيض بالماء وهو يرتفع تدريجياً ليغطي الأرض، وقد جاءه النذير وعلم بالحق، ثم يدله عقله القاصر على فرصة للنجاة من هذه العقوبة الربانية!
إحدى مظاهر النمو المستمرة في حياة الإنسان: النمو العقلي. وفي سياق الحياة الأسرية فإن الولد وهو يشعر بتوسع مداركه المتزايد ونمو قدراته العقليه.. يشعر أحياناً أنه متفوق على غيره من أفراد أسرته، وإذا أضفت إلى هذا شعوره المتنامي بالحاجة إلى الاستقلال عن الوالدين فإنك ستكون أمام ولدٍ يصعب إقناعه بنتائج خبراتك ومعارفك، إنه أذكى منك – هكذا يتصور – وأعمق فكراً وأصح معلومة وأجدّها.
وأنت إذا أمسكت بالقلم وقربته من عينك فإنك ستراه كبيراً يملأ العين، لكنك لا تراه كله، أما إذا أبعدته عن عينيك مسافة أطول فإنك ستراه في حجمه وشكله الطبيعيين، ستراه كله، وستعرف مقداره بالنسبة إلى الأشياء التي بجواره. السنون والخبرات والمعارف المكتسبة طوال السنين تجعلك ترى الأشياء أقرب ما تكون إلى حجمها وشكلها الطبيعيين، أما حداثة السن ونقص الخبرات والمعارف فستجعلك ترى الأمور في شكل أعظم وحجم أكبر من قدرها.. هذا هو الحال في تفكير الوالد والولد.
هذا التشكل العقلي والوجداني لديه يفرز مواقف خائبة! كموقف ابن نوح مع الطوفان والسفينة، إن الأب لا يملك حيالها إلا ثلاثة أمور يجلله بمزيد من الصبر:
- محاولة الإقناع العقلي (لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم).
- محاولة التأثير الوجداني (يا بني اركب معنا ولا تكن مع الكافرين).
- دعاء الله تعالى (رب إن ابني من أهلي وإن وعدك الحق وأنت أحكم الحاكمين) بالتأكيد لا أقصد عين هذا الدعاء، وإنما المقصود هو اللجوء إلى الله تعالى وسؤاله للولد.
اختلاف التفكير بين الكبار والصغار، الآباء والأولاد، المعلمين والطلاب.. مشْكل حقيقي، وعلينا التنبه له وعمل اللازم حياله.
القرآن الكريم نبهنا على هذا المشكل أكثر من مرة، ليس في قصة نوح وابنه فحسب، بل كذلك في أحوال تتكرر عبر القرآن عنها في هذه الآية: (والذي قال لوالديه أف لكما أتعدانني أن أخرج وقد خلت القرون من قبلي وهما يستغيثان الله ويلك آمن فيقول ما هذا إلا أساطير الأولين).
فهذا الولد الذي عق والديه بكفره بالله واليوم الآخر كان ينظر إلى دعوتهما له إلى الإيمان بمنطقية يتوهمها، ويظن أنه أصح منهما فكراً ونظراً، فيقول: أتزعمون أن الله يخرجني من قبري إلى البعث وقد جرى نظر الناس في الأمم والقرون على أنه لا بعث بعد الموت؟ ويقول لهم: أنتم تستندون إلى مقولات لم تثبت مادياً!
بينما الوالدان يحاولان إقناعه والتأثير عليه (ويلك آمن إن وعد الله حق) في نفس الوقت الذي (هما يستغيثان الله) فيه أن يهديه ويرده إلى الصواب.
خاصة المراهق، فإن شعوره بالحاجة الاستقلال الفكري والمادي يتأجج كلما كبر. أعتقد أننا اليوم بحاجة إلى حل هذا المشكل، وأعتقد أن حلها ليس بالصعب إن شاء الله، علينا أنْ نبحث مسألتي الإقناع العقلي للولد المراهق والتأثير الوجداني عليه تحديداً.
والله المسؤول أن يصلح ذراري المسلمين ويردهم إليه رداً جميلاً.