لكل إنسان حاجات وله أيضاً رغبات، والتمييز المعرفي بينهما مطلب مفيد.
الحاجات هي شعور المرء بخلخلة في اتزانه النفسي، بسبب فقده للعوامل التي بها تصلح حياته، بحيث يندفع بشكل تلقائي نحو تحقيق وإيجاد هذه العوامل، من خلال سلوك ما.
هذا التعريف حاولت تأليفه من التعريفات الموجودة والمنثورة بغية تقريبه إلى الأذهان.
من أسهل الأمثلة على الحاجات: الحاجة إلى الأكل، فإن الإنسان إذا جاع كان جوعه تعبيراً ومؤشراً لحاجة الجسد إلى المواد البانية له من الغذاء، أي أنَّ الخلايا تطلب (البروتين) حقيقة، وبالتالي تصيب الجسد حالةً من ضعف الاستقرار وانعدام الراحة وتشوش التفكير ثم الاندفاع إلى تناول الأكل، فإذا أكل شعر بالارتياح واستطاع أنْ يكمل شؤون حياته وهو هادئ النفس مستقر الطباع.
والحاجات متعددة ومتنوعة كذلك.
وعلماء النفس لهم اجتهادات في ترتيبها وتصنيفها، فمثلاً: الحاجات الفسيولوجية تشمل الحاجة إلى الأكل والتنفس والإخراج والنكاح ، وهذا مستوى من الحاجات الرئيسية الواجبة، بل هو يمثل منطلق (الحقوق).
وهناك حاجات اجتماعية، وحاجات ثقافية، وحاجات ولائية، وحاجات الهوية. هذه الحاجات إذا أُشبعت في نفس الإنسان فإنَّ شخصيته ستتمتع بالاستقرار والتوازن بقدر ذلك الإشباع.
التربية الإسلامية لا تلغي الحاجات، بل تدعو إلى إشباعها لما تؤدي إليه من استقرار نفسي يبعث النفس إلى المزيد من القربات والطاعات، وفقهاء التربية الإسلامية يوصون ويحضون على إشباعها، ويذمون التقصير في شيء من ذلك، لما يؤول إليه هذا التقصير من اضطراب النفس وذبول الشخصية؛ الأمر الذي يدفع الإنسان إلى الهروب من مربع القربات والطاعات. ألا ترى أنَّ نبينا صلى الله عليه وسلم استعاذ من الهم والحزن، إذ يمثلان تضخماً في جانب الحاجات ونقصاً في جانب إشباعها، فتعوذ منهما لما يؤولان إليه من تثبيط النفس عن الطاعة، ودفع إلى الإشباع المحرم.
قال ابن تيمية: (إنَّ النفوس لا تقبل الحق إلا بما تستعين به من حظوظها التي هي محتاجة إليها، فتكون تلك الحظوظ عبادة لله مع النية الصالحة)[مجموع الفتاوى 28/366].
في الجانب الآخر من الحديث عن الحاجات تبرز لنا مسألة الرغبات.
الرغبات هي القوالب التي يقترحها الإنسان لإشباع حاجته!
فمثلاً: الحاجة إلى الأكل. يقترح الجائع نوعاً من الأكل ليسد به حاجته، فيطلب ما يشتهي من الأكل مما التصق بذائقته، فيكون بأكله لهذا الطعام المحدد أشبع حاجته من الأكل وحقق رغبته من لذة الطعام الشهي.
لنأخذ مثالاً آخر:
الحاجة إلى المعرفة. يريد الإنسان أنْ يتعرف على الكون وعلى طبيعة الحياة، فتراه يندفع إلى سلوك معين لإشباع هذه الحاجة، لكن الناس مختلفين في طريقة إشباعها، مختلفين في أشكال القوالب التي بها يُشبعون هذه الحاجة، فمنهم من يشبع حاجة المعرفة عن طريق القراءة، ومنهم من يشبع هذه الحاجة عن طريق مشاهدة الوسائط الإعلامية، ومنهم من يشبع هذه الحاجة عن طريق العلاقات المفتوحة مع الآخرين… إلخ. تمثل القوالب: القراءة والمشاهدة والعلاقات قوالب مقترحة أو رغبات يتم من خلالها إشباع الحاجات.
قد أحسن من انتهى إلى ما سمع.
لكن هنا نقطة جديرة بالانتباه:
ليس كل رغبة تمثل النموذج الصحيح لإشباع الحاجة.
احفظ هذه القاعدة وافهمها جيداً.
إذا كانت الرغبات هي قوالب مقترحة لإشباع الحاجة، فإنَّ جزءاً منها اقتُرح بشكل خاطئ، نابع عن مؤثرات غير مقبولة. وسأبين لك ذلك بمثال واضح: الحاجة إلى النكاح لا يمكن إنكارها أو إلغاؤها، لكن الناس يختلفون في طريقة إشباعها وفقاً لعوامل مختلفة، بمعنى أنهم يختلفون في القوالب المقترحة لإشباع حاجة النكاح، فمنهم من يشبعها عن طريق الزواج وهو طريق شرعي، ومنهم من يشبعها عن طريق علاقة غير شرعية، وطرق أخرى ممنوعة أو مضرة.
ولذلك يخطئ البعض حين يعرض الرغبات باعتبارها حاجات. طبِّق هذا على مظاهر متعددة في حياتنا: كالموضه والترفيه والسوق.
النفس الإنسانية إذاً بحاجة إلى عملية فرز لما يصلح من الرغبات وما لا يصح، وعملية الفرز تحتاج إلى مُرشد، لأن النفس لا تستطيع أنْ تقوم بذلك بمفردها، إذْ يمثل الشيطان والهوى وحب الدنيا والضغط الجمعي مؤثرات حقيقية في انحراف الرغبات، بينما يمثل القرآن والسنة والأحكام المستخلصة منها عاصمة من اختيار الرغبات المنحرفة، بل إن الله تعالى إنما أنزل الكتب على الناس وأرسل الرسل إليهم لعدد من الحكم العظيمة، والتي من أجلها إرشاد الناس إلى الطريقة الصحيحة في التعامل مع رغباتهم، إذ سرعان ما يقع منهم الانحراف في تحقيق رغباتهم متى ما استطاعوا إلى ذلك سبيلاً، وما تفشي القتل في العالم وأكل المال بالباطل وتفشي الفردانية وغيرها إلا بعض مظاهر الانحراف، والله تعالى علَّمنا عن سرعة قبول النفس لذلك فقال: (كلا إن الإنسان ليطغى . أن رآه استغنى).
أيضاً هنا نقطة أخرى مهمة:
يتميز المؤمن بخيار ثالث في تحقيق الرغبات، إضافة إلى خيار الرغبات المشروعة والرغبات الممنوعة.
ذلكم هو خيار تأجيل الرغبة!
أي أنه في حال لم يتمكن من إشباع حاجته بتحقيق الرغبة المشروعة، فإنه يؤجل ذلك إلى أنْ يتيسر له، محتسباً أجر التأجيل هذا عند الله تعالى، موقناً بأنه من ترك شيئاً لله عوضه الله خيراً منه، مؤمناً بأن الله تعالى سيجزيه أجر الصبر يوم الحساب والجزاء، فينبع عن هذا الاحتساب شعور الرضا.. الشعور العظيم المقاوم لاضطراب النفس عند فقدها للحاجات، والله سبحانه أشار إلى أثر الإيمان في الاتزان النفسي في مواضع، منها قوله تعالى: (إن الإنسان خلق هلوعاً . إذا مسه الشر جزوعاً . وإذا مسه الخير منوعاً . إلا المصلين).
نستطيع أنْ نستخلص خلاصتين مهمتين من هذا الموضوع:
الأولى: أنَّ إشباع الحاجات أمر مختلف عن تحقيق الرغبات.
الثانية: أنَّ تحقيق الرغبات ليس أمراً سائغاً على الدوام، وبحاجة إلى ترشيد الشرع له.
ومن الله نستمد الهداية والتوفيق.