في أي سياق ينبغي أن تطرح مسألة الموسيقا والغناء والعزف؟
أهي في أبواب فروع الفقه؟ أم هي في أبواب الآداب والأخلاق؟ أم هي في أبواب العقائد؟
أياً ما كان الأمر؛ فإنَّ الأمانة العلمية تحتم على الباحث رسم صورة متكاملة عن الموضوع الذي يبحثه، ومن هذا الباب أحببت الإشارة إلى بعض النقاط.
تاريخية الغناء
من الحقائق المهمة في عصور الحضارات الشرقية القديمة أنها صنعت من الموسيقا طقوساً دينية، أي أنها أدخلت الموسيقا ضمن هيئتها التعبدية، ومثال ذلك معروف في الحضارة السومرية والحضارة الفرعونية على سبيل المثال.
أما الحضارة الإغريقية فقد اشتدت عنايتها بالموسيقا، بل جعلت نظامها التربوي بأسرِه يستند عليها، وذلك باعتبارها جزءاً مهماً من العلوم الأربعة (الهندسة والفلك والطب والحساب)، وقام أساطين العلم حينها كفيثاغورس الرياضي وبطليموس الفلكي بالتأليف في الموسيقا.
أفلاطون يعتبر الموسيقا أرفع الفنون وأرقاها، لأن الإيقاع والتوافق يؤثران في النفس الباطنة والحياة الانفعالية للإنسان، بما ينعكس أثره على أعضاء الجسم وأجهزته. لذلك يرى الطبيب الفرعوني أمحوتب (والذي أصبح إلهاً للشفاء فيما بعد) أنَّ الموسيقى سبب في العلاج فاستخدمها في العلاج.
في العصور بعد الميلاد وقبل الإسلام تأثرت النصرانية بشكل كبير بالطقوس الوثنية الوافدة عليها من الخارج، وأدخلت جزءاً منها في كنائسها، كالصور والغناء، وذلك بسبب غزو القبائل والشعوب الوثنية على تلك الديار، ولغيرها من الأسباب، وهذه الملاحظة لم تفت على ابن تيمية فهو يقول: (أما ناقوس النصارى فمبتدع، إذ عامة شرائع النصارى أحدثها أحبارهم ورهبانهم).
القديس افرام السرياني الذي يعده بعض المؤرخين واللاهوتيين أعظمَ مَن كتب القصيدة والترنيمة الدينية في الشرق المسيحي قام بتأليف التراتيل وتلحينها وتعليمها، وأخذ عن الموسيقا الفارسية المبنية على اثني عشر لحناً أو مقاماً، والتي هي أصلاً مأخوذة من العراق السومرية بلاد ما بين النهرين.
ثم قام الباباوات بتأسيس نظام للطقوس الدينية المؤلفة من الأغاني التي ترنم في المناسبات المختلفة طوال السنة، وقاموا بكتابة كلمات وموسيقا تلك الأغاني، ثم أخذت كل كنيسة تؤلف موسيقا وأغاني خاصة بها. وقد هذب البابا غريغوري الأول (حاكم روما سابقاً) الموسيقا اللاتينية الكنسية وأحدث ما يعرف بالترانيم الغريغورية.
ولذلك يعتقد أنَّ جهاز الأورق التقليدي ظهر في الكنائس خلال الفترة البابوية للبابا فيتالين في القرن السابع الميلادي.
ثم انتقلت العادة النصرانية والوثنية في استخدام الموسيقا والعزف والغناء ضمن الطقوس الدينية وبغرض تهذيب النفوس والأخلاق إلى أهل الإسلام عن طريق طوائف المتصوفة والزنادقة كالفارابي وابن الراوندي وابن سينا.. وتطور لدى المتصوفة كما هو معلوم.
أما العرب في جاهليتهم في الجزيرة العربية فقد كانوا يغنون بصوت ملحن فقط دون استعمال آلات العزف، لأنهم كانوا ينشغلون بالمعاني ويطربون بها وهي بدورها تتحكم في انفعالاتهم.
في القرن الخامس عشر ميلادي، وهو بداية ما يسمى بالعصور الحديثة والتي بدأت أوروبا فيها بالصحوة ومراجعة الذات والقيم.. بدأ انتقال الموسيقا من الكنائس إلى قصور الأمراء والنبلاء، وتغيرت مقاصدها تبعاً للتغير الديني والثقافي آنذاك، فتحولت من مجرد طقوس دينية إلى وسيلة للفرح والمرح والترويح، ثم انتقلت الموسيقا إلى العديد من الأطوار تزامناً مع التحولات الاجتماعية والثقافية والدينية إلى أن وصل بها الحال أنْ أُدرجت ضمن العلوم الإنسانية، ولكنها مع كل هذه التحولات لم تفقد جوهرها في التأثير على الوجدان والقيم وتهذيب الروح، واستلهام الطقوس الدينية في أدائها.
والمقصود من هذا السرد التاريخي هو بيان أمر مهم:
الارتباط الوثيق بين الغناء والمعازف من جهة وبين الكنائس والمعابد من جهة، إذ تمثل المعازف والغناء في أصلها وحقيقتها جزءاً من الممارسات الدينية، وعليه فإنَّ وقوع فئام من المسلمين في هذي الخطيئة هو موافقة لهدي الأمم الكافرة من السومرية والفراعنة والإغريقيين والرومانيين، إذ إن الحضارات تتفاعل والأمم القوية تنتقل عاداتها وطقوسها إلى الأمم الضعيفة، والشريعة الإسلامية البيضاء جاءت بالنهي التام عن الوقوع في التشبه بأي أمة أخرى كافرة، كما جاء ذلك نصاً صحيحاً متواتراً عن النبي صلى الله عليه وسلم: (خالفوا المشركين). قال ابن تيمية: (نفس المخالفة لهم في الهدي الظاهر مصلحة ومنفعة لعباد الله المؤمنين، لما في مخالفتهم من المجانبة والمباينة التي توجب المباعدة عن أعمال أهل الجحيم، وإنما يظهر بعض المصلحة في ذلك لمن تنوَّرَ قلبه حتى رأى ما اتصف به المغضوب عليهم والضالون من المرض الذي ضرره أشد من ضرر أمراض الأبدان).
تحولُ الغناء إلى مظهر اجتماعي يجعله هدياً أو سمتاً عاماً، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم ولم يكن الغناء من هديه ولا من هدي المجتمع الإسلامي في القرون المفضلة من بعده.
خشوع اللاهين
إذا علمنا أن أصل الغناء مرتبط بالمعابد ثم الكنائس فمعنى ذلك أن الغناء له وشائج روحية ومعاني تعبدية، وهذا محله البحث العقدي!
وأين نجد اليوم الجانب التعبدي في الغناء؟
الجواب: التعلق بالنجوم وحبهم والذوبان في النجوم، سواء كانوا ذكوراً أو إناثاً.
وهنا أفتح قوساً للتذكير بأنَّ الديانات الوثنية والنصرانية المحرفة تسبغ على البشر بعض أوصاف الإله وتجعل منهم آلهة تعبد من دون الله أو بعض آلهة، حسب مراحل تصاعدية، يترقى فيها الإنسان من بشر ٍ كامل البشرية إلى جزء من إله ثم إلى آلهة، ذلك أنه يجوز لديهم تعدد الآلهة كما يجوز لديهم حلولها في أنواع من الناس كالملوك والحكماء والكهان والرهبان وغيرهم.
وعليه فإن النجوم ومحبوهم وجمهورهم يقعون تحت تأثير روحي شديد، فحين يدخل النجم أو النجمة إلى المكان المخصص للغناء فإنك تسمع صرخات البنات وصفير الشباب احتفاء بالقرب منه واستئناساً بوجودهما في مكان واحد، ولا بد للنجم – ذكراً أم أنثى – أنْ يكون في مكان مرتفع عن الجمهور أو بارز، وتسلط الضواء عليه في جو من الحب والذوبان يشبه جو العبادة الصوفية أو النصرانية، الكل معجب، والكل محب، والكل راغب بسماع ما لهذه الآلهة البشرية، وهي تقابلهم بكرم الاستجابة فتعطيهم الصوت والانتشاء وتنتشلهم من دائرة الهموم وتعرج بهم في فضاء الأُنس إلى حين انتهاء الصلاة! فيزداد الجمهور إيماناً بآلهتهم؛ فالحب في عالم النجوم يساوي معنى العبودية لاشتماله على معنى الخضوع، وتزداد هي عطاء وتفرغاً لتلبية احتياجاتهم الروحية.
هذا المعنى أشار إليه الفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي إدغار موران في كتابه: نجوم السينما، فقال: (إنَّ النجمات وقد حولن إلى بطلات وإلى آلهات، أصبحن أكثر من مجرد مواضيع للإعجاب، إنهن أيضاً مشروع عبادة، ومن حولهن تتشكل براعم دين جديد).
وما أشار إليه إدغار هو تفسير لكثرة إقبال المعرضين عن الله تعالى على الحفلات الغنائية وملاحقة النجوم: إشباع الحاجة الروحية، فإنَّ الروح تتمزق إذا لم تتأله، وتعطش إذا لم تتعبد، فإذا هذه الروح أعرضت عن عبودية الله شعرت بمرِّ الحاجة إلى معبودٍ غيره وإلهٍ سواه تنطرح بين يديه وتسبل دموعها عند قدميه وتبث له أشواقها وأفراحها وتتلمس القرب منه.. كل هذا متوفر في النجوم، ومحله مسارح الفن وقاعات الغناء.. حينها تقام تلك الصلاة ويزدحم المريدون يستقبلون النجم ويتمايلون تمايل الصوفي، أو النصراني على حد سواء، أما إذا تحققت نشوة العبادة فحينها يُرفع التكليف ويقوم المريدون بما لا يليق من الأفعال.
فهل خشبة المسرح مكان للهو أم معبد جديد؟
سيزول استغرابك لهذا الأمر إذا تذكرت حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (الشرك في هذه الأمة أخفى من دبيب النمل).
التبعة الأخلاقية
في لحظات التجلي التي تحل بالمريدين والناتجة عن طغيان النشوة الغنائية يبدأ الدور الاستفزازي للشيطان فيقوم بتحريك القلوب وتهييج الغرائز الجنسية، قال ابن تيمية: (ومن أقوى ما يهيج الفاحشة إنشاد أشعار الذين في قلوبهم مرض، من العشق ومحبة الفواحش ومقدماتها بالأصوات المطربة، فإنَّ المغني إذا غنى بذلك حرك القلوب المريضة إلى محبة الفواحش، فعندها يهيج مرضه ويقوى بلاؤه، وإن كان القلب في عافية من ذلك جعل فيه مرضاً، كما قال بعض السلف: الغناء رقية الزنا – ورقية الحية هي ما تستخرج بها الحية من جحرها ورقية العين والحمة هي ما تستخرج به العافية – ورقية الزنا هو ما يدعو إلى الزنا، ويخرج من الرجل هذا الأمر القبيح والفعل الخبيث، كما أنَّ الخمر أم الخبائث، قال ابن مسعود: “الغناء ينبت النفاق في القلب كما ينبت الماء البقل”، وقال تعالى لإبليس: (واستفزز من استطعت منهم بصوتك وأجلب عليهم بخيلك ورجلك وشاركهم في الأموال والأولاد) واستفزازه إياهم بصوته يكون بالغناء – كما قال من قال من السلف – وبغيره من الأصوات كالنياحة وغير ذلك، فإنَّ هذه الأصوات كلها توجب انزعاج القلب والنفس الخبيثة إلى ذلك، وتوجب حركتها السريعة واضطرابها حتى يبقى الشيطان يلعب بهؤلاء أعظم من لعب الصبيان بالكرة).
وقوة تأثير الغناء في تسهيل الممارسة الجنسية معروف، وذكر العارفون بطبائع النفوس أنَّ المرأة إذا استصعبت على الرجل اجتهد أنْ يسمعها صوت الغناء، فحينئذٍ تعطي الليان!
لكن ابن الجوزي يذهب إلى أبعد من هذا، إلى قوة تأثير الغناء في الوقوع في الزنا تحديداً، فيقول: (سماع الغناء يجمع شيئين، أحدهما: أنه يلهي القلب عن التفكر في عظمة اللَّه سبحانه والقيام بخدمته، والثاني: أنه يُميله إلى اللذات العاجلة التي تدعو إلى استيفائها من جميع الشهوات الحسية ومعظمها النكاح، وليس تمام لذته إلا في المتجددات، ولا سبيل إلى كثرة المتجددات من الحل، فلذلك يحث على الزنا! فبين الغناء والزنا تناسب من جهة أنَّ الغناء لذة الروح والزنا أكبر لذات النفس، ولهذا جاء في الحديث: الغناء رقية الزنا).
ولم يفت على ابن الجوزي أنْ يغلق النوافذ على الذين يحاولون التملص من التبعة الأخلاقية للغناء، فقال: (مَن قال إنَّ هذا الغناء المطرب المزعج للطباع المحرك لها إلى العشق وحب الدنيا لا يؤثر عندي ولا يلفت قلبي إلى حب الدنيا الموصوفة فيه فإنا نكذِّبه لموضع اشتراك الطباع).
وهذا من عجائب أفعال الشيطان: أنْ يمزج العبوديات التي يقترحها عليك بلذة الشهوة. فهل الغناء والحالة هذي محله البحث الفقهي؟!