السؤال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، هل من الممكن آخذ رأيك في موضوع خاص؟
أنا موظفة حافظة للقرآن الكريم، وفي الحقيقة هي مشكلة أدركت فيها خطأي قبل وقوعه وبعده، ومعترفة تماماً أني مذنبة، ولكنْ أحمد الله تعالى أنْ حفظني.
تعرفت على مندوب عمل من خلال تطبيق تواصل شهير، وحيث كانت البداية هي أني نصحته لوجود مخالفات شرعية، وتدرجنا حتى تعلقت به، وقد طلب مني مراراً أن أخرج معه فرفضت خوفاً من الله، فلما يئس مني أن أخرج معه تركني وحذف رقمي وغضب علي.
عندها أحسست بمشاعر مختلطة، أسفت على فراقه، وفي نفس الوقت شعرت بعظيم الذنب، والخوف من الفضيحة، رغم أنه لم ينل مني شيئاً.
وأنا الآن مع بعدي عنه أشعر بفراغ في مشاعري، فما هو الحل لكي أحسم الأمر؟
الجواب:
شكر الله لك هذه الدَفعة الإيمانية الهائلة، فإن النصوص الشرعية تدل على أنَّ من يقع في الذنب ثم يصدق الله تعالى في توبته فإنَّ الله يجزيه خيراً كثيراً، والتوبة مقام إيماني عظيم يحبه الله حباً عظيماً، قال الله تعالى: ( إنَّ الذين اتقوا إذا مسهم طائف من الشيطان تذكروا فإذا هم مبصرون) وقال تعالى: (والذين إذا فعلوا فاحشة أو ظلموا أنفسهم ذكروا الله فاستغفروا لذنوبهم ومن يغفر الذنوب إلا الله ولم يصروا على ما فعلوا وهم يعلمون . أولئك جزاؤهم مغفرة من ربهم وجنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها ونعم أجر العاملين). وقال النبي صلى الله عليه وسلم : (كل بني آدم خطاء وخير الخطائين التوابون). كتبها الله لك في موازين حسناتك وعوضك خيراً مما فقدت، ومثل ما قلت: الحمد الله تعالى أن حفظك من شره.
أختي الكريمة..
هذا ابتلاء لك من الله تعالى ليبتلي إيمانك. الله تعالى امتحنك في إيمانك بفقرتين مهمتين:
الفقرة الأولى: التغلب على الشهوة المحرمة.
والفقرة الثانية: تعلق القلب بمحرم.
أما الفقرة الأولى فبتوفيق من الله – الذي ربما ابتلاك ليرفع درجاتك – نجحتي فيها، وإنْ كان فيها صعوبة، إلا أنك نجحتي واجتزتي الامتحان، وهذا فيه فضلٌ عظيم لك ورفعة عظيمة، حيث برز لديك الخوف من الله وتماسك الإيمان. ذلك أنكِ فعلتي مثل ما يفعل الأنبياء؛ مثل يوسف الشاب عليه السلام، حين كان قادراً على ارتكاب المحرم، ومفعماً بقوة الشباب والغريزة، وهمَّت نفسه، لكنَّ الله تعالى وفقه للامتناع فرفع درجته عالياً جداً. واسجدي لله شكراً على ذلك، فإنه لا يوفق لذلك إلا من أدركته رحمة الله؛ ذلك لأنكِ ارتكبتي ابتداءً خطأ جسيماً في الحديث معه والتعرف عليه بطريقة غير شرعية .
وأما الفقرة الثانية – وهي تعلق القلب بمحرم، والخوف من انفلات المشاعر- فأنتِ لا زلتي في قاعة الامتحان، ولا زلتي على المحك الإيماني، وهكذا كان يوسف عليه السلام؛ لم تنته قضية الشهوة عنده بمجرد هروبه، فامرأة العزيز بل ونسوة العلية من القوم كنَّ يأملن في القرب منه، فهو حينها لم يزل في امتحان الفقرة الثانية، فماذا فعل من أجل أن ينجح في هذا الامتحان؟
عمد يوسف عليه السلام إلى نقطتين مهمتين، وهي ما عليك فعله الآن على وجه التحديد:
النقطة الأولى: اللجوء إلى الله بالدعاء.
لجأ يوسف عليه السلام إلى الله تعالى، فقال: (معاذ الله) وقال بعد ذلك لما تحرشوا به: (ربِّ السجن أحب إلي مما يدعونني إليه وإلا تصرف عني كيدهن أصبُ إليهن وأكن من الجاهلين) ولما رأى الله تعالى منه صدقه عصمه (فاستجاب له ربه فصرف عنه كيدهن إنه هو السميع العليم . ثم بدا لهم من بعد ما رأوا الآيات ليسجننه حتى حين).
فالله عز وجل يسمعك، عليك اللجوء إليه ودعاؤه في أوقات الإجابة أنْ يصرف عنك فتنة الشهوة هذه. تحري الأوقات الفاضلة واسأليه بتذلل (ادعوا ربكم تضرعاً وخفية).
والدعاء أعظم سلاح وأقوى سبب تتوصلين به إلى ما تريدين، ذلك لأنه متصل بقوة الله وقدرته، وتأملي كيف عصم الله تعالى يوسف من الوقوع في هذه الفتنة وكيف صرف عنه كيدهن وهن اللاتي يطلبنه ويجتهدن في الإيقاع به. لا شك أنَّ الله تعالى القوي المتين القادر على كل شيء والقاهر فوق كل شيء سيستجيب لك دعائك وسيصرف عنك كيد الذي يطلبك (حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت وضاقت عليهم أنفسهم وظنوا ألا ملجأ من الله إلا إليه ثم تاب عليهم ليتوبوا إن الله هو التواب الرحيم).
النقطة الثانية: القطع ( التام ) لكل تواصل.
يوسف عليه السلام دعا بالسجن، لأنَّ السجن يستحيل أنْ يختلط فيه مع نساء القصر، وهذا من حرصه على قطع الالتقاء أو المشاهدة أو السماع أو القرب، فأين السجن من القصر! لا سيما وقد جاءت فكرة السجن على لسان امرأة العزيز، ولو علم يوسف مكاناً أكثر بعداً عنهن من السجن لربما دعا الله تعالى به، وعليكِ لكي تنجحي في هذا الامتحان أنْ تقطعي كل تواصل، كوني حازمة مع نفسك التي تدعوك الى حنين الماضي، اقطعي كل شيء.. حتى شريحة جوالك، وحساباتك الشخصية على مواقع التواصل، ورقمه في جهازك؛ يجب أن تتغير… إلى آخر كل شيء يمكن أنْ يكون يوماً ما وسيلة لإعادة الاتصال به.
لا بد من هذا الإجراء التنفيذي الذي لن يقوم به سواك.
وبذلك – وبذلك فقط – تكونين نجحتي في الامتحان الثاني، وسيتغير حالك من امرأة وقعت في الخطأ إلى ولية من أولياء الله، ذلك أنك تغلبتي على مشاعرك ودوافعك من أجل رضا الله تعالى، ولا تستسهلي الأمر، فما دام الشيطان حياً فكل شيء من هذا ممكن الوقوع.
أُقدر أسفك ومشاعرك نحو القطع التام للعلاقة، ولكنك الآن في حالة علاج، فإذا ما حزمتي مع نفسك فستعودين له بأسوأ مما كنتي، وحينها ستعطينه كل شيء بالمجان، وحينها أيضاً سيضيع منك القرآن والإيمان لا قدر الله.
وأنا أقول: طالما أنك نجحتي في الامتحان الأول بتوفيق الله تعالى، فيجب أنْ تنجحي في الامتحان الثاني، وأنت قادرة على ذلك إنْ شاء الله، ذلك أنَّ الله يسمع دعاءك وبوحك ونجواك وشكواك، وهو سبحانه يجيب المضطر ويكشف السوء ويغيث الملهوف، وهو سبحانه يفرح بتوبتك وببكائك بين يديه وبلجوئك إلى حرمه (فما ظنكم برب العالمين؟).
وأنت الآن – بهذا الوصف – ربما تكونين على أعتاب درجة الولاية، وهي درجة عظيمة لا تكون إلا للمصطفين الأخيار، فاصعدي إن شئتي أو لا، وهي درجة لا تُنال بالأماني ولا بالسهل من الأمور، وإنما تنال بالامتحانات الصعبة والابتلاءات الشاقة، كهذا الذي أنت فيه، فإياك والإدبار وقد فُتح لك الباب، وإياك والنكوص وقد أُنير لك الطريق، ولو تدركين سرَّ هذا الامتحان الرباني ما ترددتِ لحظة في قطع التواصل مع هذا الشاب بكل أشكاله.
واعلمي أنَّ الدنيا دارٌ للابتلاء، وكل الناس تصيبهم هذه الابتلاءات والامتحانات، فمنهم من يوفق ويرتفع عند الله درجات ودرجات، ومنهم من يخذل – عافانا الله وإياك والقراء – ويخفق فيخسر الصفقة مع الله تعالى ويهبط في الدون.
وإنما – ونحن نواجه ابتلاءات الدنيا – نعتصم بالدعاء والقرآن والصلاة ونرجو الله أنْ يدخر لنا نعيماً في الجنة لا حزن فيه ولا نصب ولا انهيارات نفسية ولا أحزان مستديمة.
وأود أنْ أذكرك بأنَّ الحياة المدنية هذه التي نعيشها صعَّبت حياة الناس، وصار الحلال فيها صعباً والحرام سهلاً؛ في الرزق والشهوة والعلاقات وغيرها، وهذا قدرٌ نعيشه، لكننا بالقيام بأمر الله فيه، ستكون لنا الجوائز الكبرى في الآخرة من النعيم المقيم واللذة الهانئة والحبور الدائم (فأما من طغى . وآثر الحياة الدنيا . فإنَّ الجحيم هي المأوى . وأما من خاف مقام ربه ونهى النفس عن الهوى . فإنَّ الجنة هي المأوى) وفي الجنة إنْ شاء الله ستقولين: (الحمد لله الذي أذهب عنا الحزن إنَّ ربنا لغفور شكور . الذي أحلنا دار المقامة من فضله لا يمسنا فيها نصب ولا يمسنا فيها لغوب). هذه وعود الله، والله لا يخلف وعده أبداً.
الأنبياء والعلماء والفضلاء.. اقرأي حياتهم، تجدينها عبارة عن آلام ومعاناة ونكد وضيق، لكنهم سيكونون من أهل النعيم المقيم والحبور الدائم في اليوم الآخر. وإنما حاز أيوب الفضل بصبره وليس بكثرة من آمنوا معه.
وأوصيك بقراءة سورة يوسف عليه السلام، كرري قراءتها لعدد من الأيام، ففيها العبرة، وفيها السلوة أيضاً عن المفقود.
واحذري من التساهل في شأن العلاقات فإنه باب مفتوح، لكن عاقبته مرة، وكثير من الفتيات والشباب وقعوا ضحايا في هذه الحفرة العميقة.
أسأل الله العظيم، القادر على كل شيء، والقاهر فوق كل شيء، أنْ يصرف عنك السوء والفحشاء، وأنْ يعوضك خيراً مما فقدتي، وأنْ يربط على قلبك، وأنْ يشرح لك صدرك، وأنْ ييسر لك أمرك.
أسأل الله العلي الكبير، العزيز الجبار، أنْ يجبر كسرك وأنْ يقوي ضعفك وأنْ يغنيك من واسع فضله وأنْ يكفيك بالحلال عن الحرام وأنْ يحسِّن حالك وأنْ يجمل مآلك.. آمين.