يحسن التذكير بأنَّ فقهاء التربية الإسلامية كانوا يشترطون عدداً من الصفات والملكات والقدرات والمهارات لمن يمارس دور المعلم، والذي تعدُّ التربية إحدى وظائفه.
فعدا عن ما مأُثر عن الصحابة الأجلاء وتابعيهم في هذا الباب من المأثور والمنثور؛ هناك من أهل العلم من عمد إلى جمع هذه الاشتراطات في كتاب أو في مبحث من كتاب، فمنها ما كتبه الحافظ أبو بكر الآجري (ت360هـ) في كتابه: أخلاق أهل القرآن، وما كتبه الخطيب البغدادي (ت463هـ) في كتابه: الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع، وما كتبه الحافظ ابن عبد البر (ت 463هـ) في كتابه: بيان العلم وفضله، وما صنفه العلامة برهان الدين الزرنوجي (ت 591هـ) في كتابه: آداب العالم والمتعلم، ما صنفه العلامة بدر الدين ابن جماعة الكناني (ت 733هـ) في كتابه الحافل: تذكرة السامع والمتكلم في أدب العالم والمتعلم، وغيرهم الكثير.
من ذلك ما خطه ابن جماعة الكناني في أهلية التدريس في المدارس الوقفية المنتشرة في أزمانهم، قال في آداب العالم في درسه: (أنْ لا ينتصب للتدريس إذا لم يكن أهلاً له، ولا يذكر الدرس مِن علمٍ لا يعرفه، سواء اشترطه الواقف أو لم يشترطه، فإنَّ ذلك لعبٌ في الدين، وازدراء بين الناس. قال النبي صلى الله عليه وسلم : “المتشبع بما لم يعط كلابس ثوبي زور”[متفق عليه]. وعن الشِّبْلي: “من تصدر قبل أوانه فقد تصدى لهوانه”. وعن أبي حنيفة: “من طلب الرئاسة في غير حينه لم يزل في ذلٍ ما بقي”.
واللبيب من صان نفسه عن تعرضها لما يُعدُّ فيه ناقصاً، أو بتعاطيه ظالماً، أو بإصراره عليه فاسقاً، فإنه متى لم يكن أهلاً لما شرطه الواقف في وقفه، أو لما يقتضيه عرف مثله كان بإصراره على تناول ما لا يستحقه فاسقاً، فإنْ كان الواقف شرط في الوقف بأنْ يكون المدرس عامياً أو جاهلاً لم يصح شرطه…)[تذكرة السامع والمتكلم ص134].
فتأمل كل هذا التشديد في أهلية المعلم! وهذا يوضح بجلاء أنَّ أهلية المربي مسألة ذات أولوية في أدبيات التربية الإسلامية، وأنها لا تقبل التجاوز والتغاضي عن حدودها الدنيا.
ويأتي في عمدة اشتراط الأهلية قول الضحاك بن مزاحم رحمه الله، وهو مروي عن غيره أيضاً: (إنَّ هذا العلم دين، فانظروا عمن تأخذون دينكم) [المحدث الفاصل 1/415].
ولا شك أنَّ ثمة موانع تمنع من تمكين الإنسان من ممارسة الدور التربوي المباشر في المحاضن التربوية، منها على سبيل المثال لا الحصر: الخلل في التصورات الإيمانية والاضطراب النفسي وفقد التوازن وضعف الاستقرار والجهل بأمهات المسائل وضعف القدرة على التأثير وسوء الخلق وغيرها.
والمهام الكبار تحتاج إلى معايير ضابطة، وقد علمنا النبي صلى اللع ليه وسلم في حديثه عن أحد الأنبياء حين غزا أنَّ ذلك الغزو تطلب نوعاً خاصاً من الرجال، قال صلى الله عليه وسلم: (غزا نبي من الأنبياء , فقال لقومه: لا يتبعْني رجل ملَك بُضْعَ امرأة وهو يريد أن يبني بها؛ ولما يبْنِ بها , ولا أحد بنى بيوتاً ولم يرفع سقوفها, ولا أحد اشترى غنماً أو خَلِفاتٍ وهو ينتظر ولادها. فغزا، فدنا من القرية صلاةَ العصر أو قريباً من ذلك, فقال للشمس: إنك مأمورة وأنا مأمور, اللهم احبسها علينا, فحُبِسَتْ حتى فتح الله عليه) [متفق عليه]. فقد استبعد هذا النبي مَن كان قلبه مشتتاً في علائق الدنيا وإنْ كان من الأبطال الأقوياء. والمقصود أنه لا يكفي النظر في التأهيل من جانب واحد كالقدرة المهنية، وإنما هناك جوانب أخرى وزوايا خافية في الإنسان ذواتا تأثير حقيقي على الوظائف والمهن.
حتمية التعريف
من الأغلاط التي يرتكبها البعض أنْ يقصر الأهلية على الخبرة، ثم يفسر الخبرة بأنها طول المكث في التعلُّم، أو على القرب من المعلم وطاعته المطلقة له أثناء التعلم، أو على قوة شخصيته وقيادته المؤثرة، رغم أنَّ إطار التأثير أوسع من إطار التربية، ويمكن أنْ يدخل فيه أضعاف أضعاف الذين يدخلون في إطار التربية، أو عليها جميعاً مع الاستغناء عن الجانب العلمي اللازم لاكتمال أهلية المربين والفكر الضروري لتشكيل عقل المربي.
لا يكفي أنْ نقول: فلان ناضج أو صالح للتربية أو يستحق أنْ يكون معلماً، بل لا بدَّ من تحرير هذه الأوصاف والمصطلحات بتحويلها إلى تفاصيل دقيقة وواضحة ومتفق عليها، إذ يختلف الناس في تفسير المعاني المجردة والتي تحتمل النسبية، لكن عندما نحولها إلى تفاصيل واضحة ستكون هذه المعاني واضحة، بل ويمكن قياسها وإدارتها وصناعة البرامج من خلالها. وهذا ما يسمى في الإدارة بـ(التوصيف الوظيفي) وهو من أهم أبواب الإدارة التي تحتاج إليها الأعمال والمؤسسات، فهو يقوم بتعريف الوظيفة وتوضيحها أولاً، ثم يجعل لها واجبات ومهام وإجراءات عبر تسلسل هرمي منطقي، ثم يستنتج منها الصفات اللازمة للقيام بها عبر منظومة الكفايات.
وسيكون التوصيف الوظيفي الجيد مدخلاً رئيسياً لتشكيل أدوات التقويم ومعاييره، وكذلك سيكون مدخلاً رئيسياً في رسم خطة التدريب والتأهيل اللازمة، وهذا يدركه تماماً أخصائيو تحليل الاحتياجات التدريبية.
إذن، تعريف (وظيفة التربية) وتعريف (المربي) في محضن تربوي ما بعينه: لبنة أولى في تأهيل المربين.
وما دام أنَّ (التوصيف الوظيفي) بهذا القدر من الأهمية، فإنه – كما أعتقد ذلك – ينبغي أنْ تهتم الإدارات التربوية بهذا الباب الإداري، وأنْ توليه عنايتها القصوى، وأنْ تعتمده ضمن مهامها.
ولكل محضنٍ تعريفه الذي يشترك مع سائر المحاضن في بعضه، ويختص عنها ببعضه الآخر، وفقاً لرؤيته وأهدافه، فالرؤية الخاصة والأهداف المتعلقة بها هما ما يتحكم في تعريفنا للمربي ووظيفته.
خطوط التأهيل
يلزمنا لتسكين شخصٍ ما في وظيفة التربية أو تأهيله ليكون ملائماً للقيام بها أو تطويره وهو على رأس العمل: ستة خطوط؛ هي العناصر المشكِّلة لشخصية المربي المؤثر والناجح. لا بد من ذلك.
الخط الأول: المبادئ الإسلامية والتصورات الإيمانية والمنهج الفكري والسلوك المعتدل. ويدخل فيها محكمات الدين وقواعده والاستقامة على شرع الله وتطبيق الأحكام وصحة المعتقد وسلامة الأسس الفكرية والبعد عن خوارم المروءة وما إلى ذلك.
الخط الثاني: الصحة النفسية والنماء الذاتي والاستقرار الشخصي. ويدخل فيها التوازن والسلامة من الاضطرابات النفسية والعناية بتحسين المستوى الشخصي وإدارة الوقت ورسالة الحياة ونحوها، وتعليم القراءة ومهاراتها.
الخط الثالث: النمو العلمي الشرعي والمعارف اللازمة للوظيفة. ويدخل فيها تفسير القرآن وفقه العبادات وعلم أركان الإيمان والسيرة النبوية والتاريخ المعاصر وعلوم نفس النمو والاجتماع والإدارة ونحوها في الجانب الذي تحتاجه الوظيفة منها، وتعليم التفكير وفنونه.
الخط الرابع: جودة الإدارة وقوة القيادة. ويدخل فيها العمليات الإدارية: التخطيط والتوجيه والمتابعة والتقويم، والتنسيق والتدريب وإدارة الاجتماعات، والتأثير والإقناع والاستيعاب ونحوها.
الخط الخامس: المهارات التربوية اللازمة. ويدخل فيها طرق التدريس وصياغة الأهداف التربوية ومراعاة الفروق الفردية وبناء الشخصية وتعزيز الثقة وغيرها الكثير من مهارات التربية.
الخط السادس: الأخلاق الفاضلة وفنون التعامل مع الناس. ويدخل فيه أنماط الشخصية ومهارات الاتصال وغيرهما.
وليس بين هذه الخطوط تفاضل أو أولوية، إذ لا تصلح شخصية المربي بفقد أحدها، لكن لا باس أنْ نرتب تفاصيل كل خط في سلم التدرج والأولويات. بل ربما تختلف بعض تفاصيلها في محضن ما عنها في المحضن الآخر.
وفي حال أردنا العمل في هذا الاتجاه، أعني تأهيل المربين، فنحن بين خيارين:
الخيار الأول: أنْ يكون الفريق العامل قادراً على ذلك من خلال التوصيف الوظيفي وصناعة المعايير وتدريب من يلزم، فعليه إذاً القيام بهذه المهام وفق خطة ناضجة متفق عليها، ذات بعد زمني وأدوات متنوعة.
الخيار الثاني: أنْ يكون الفريق العامل غير قادر على ذلك، وعليه إذاً الشراكة مع المتخصصين والناجحين لمساعدتهم في تحقيق ذلك وإنجازه على أحسن وجه، وهذا من التطبيقات الحسنة لقوله تعالى: ﴿وَتَعَاوَنُواْ عَلَى ٱلۡبِرِّ وَٱلتَّقۡوَىٰ﴾[المائدة:2].
وحين لا نقبل أحدهم في وظيفة التربية المباشرة، فإنه لن يعدم الوظائف التربوية الأخرى المساندة إذا استوفى الحد الأدنى من معاييرها واشتراطاتها، كالباحث التربوي والإعلامي التربوي والتقني التربوي والمدير التربوي. أما التربية المباشرة التي تتصل بالطالب وتبني شخصيته وتغرس فيه مفاهيم الإسلام وتبني فيه القيم والأخلاق الفاضلة فلا يصح التنازل عن أحدٍ من هذه الاشتراطات، ولو أدى إلى قلة المربين.وحين تتعدد أنواع المحاضن التربوية وأهدافها فإنها ستستوعب أعداداً أكثر من المربين، لأنها – والحال هذه من تنوع المحاضن وأهدافها – ستغير من تعريف المربي ومواصفاته وواجباته ومهامه؛ الأمر الذي يتيح للكثيرين أنْ يمارسوا دوراً تربوياً مباشراً، بخلاف ما إذا اقتصرت التربية على أنواع محددة قليلة ومتقاربة المضمون.