في واقع الأمر أنَّ الفن في مجمله أحد أهم الأدوات التي تغير المجتمعات، ومقتضى ذلك أنَّ صناع القرار يصنفونه أداة استراتيجية في تربية المجتمعات على نوع الثقافة والمعتقدات الذي يفضلونه ومستوى الديانة الذي يريدونه.
وهو يقوم بهذا الدور بتأثير بالغ، فإذا حاورت دهاقنة الفن عن خطورة تأثيره قالوا لك: إنما الفن يعكس صورة المجتمع، وهم يكذبون ويعلمون أنهم يكذبون، فإنَّ الفن في حقيقة الأمر يصنع صورة المجتمع، ولطالما تعالت صيحات التحذير من ذلك، الأمر الذي حدا برئيس جامعة بوسطن الأمريكية عام 1950م دانيال إل مارش أن يقول في حفل تخرج الطلاب: (في حالة استمر جنون التلفاز في تقديم برامج منخفضة المستوى كالتي يعرضها فإننا سنصبح مستقبلاً أمة من الحمقى)[1]. هذا قبل 70 سنة، أي قبل ظهور الكثير من التقنيات المتطورة وقبل الوصول إلى الحالة المتقدمة من ألوان الفنون الموجودة اليوم.
علينا أنْ نناقش موقع البرامج ذات الحلقات المتسلسلة، لموسم أو أكثر، من حياة الشباب، مثل المسلسلات الدرامية وبرامج الواقع ومسابقات الغناء الموجهة للشباب والفتيات وبرامج الحوار الفنية، إذ لا يزال البعض لا يصدق أنَّ هذه البرامج تحتل الصدارة في إطار المتابعة الشبابية وكذلك في قوة التأثير عليهم، وأخص بالذكر: المسلسلات التمثيلية الدرامية الأجنبية.
في لقطة إحصائية واحدة فقط أشير إلى ما نشرته (العربية) عبر موقعها الإلكتروني www.alarabiya.net في صفحة (ثقافة وفن) بتاريخ 10 رمضان 1439هـ من أنَّ شبكة (MBC مصر) أعلنت عن كون المحتوى المعروض على الشاشة حقق على صفحة الفيسبوك ما يقرب من 55,3 مليون مشاهدة في الأيام الستة الأولى من شهر رمضان لذلك العام، فيما وصلت مشاهدات المحتوى إلى 31.9 مليون مشاهدة عبر اليوتيوب. وفي التفاصيل ذكرت الشبكة ما يلي:
البرنامج | عدد المشاهدات في الفيسبوك (بالمليون) | عدد المشاهدات في اليوتيوب (بالمليون) |
برنامج يومي (رامز تحت الصفر) | 15,5 | 16,8 |
عرض مسرحي يومي (مسرح مصر) | 10,9 | 14,5 |
مسلسل يومي (سك على أخواتك) | 2,5 | 7,5 |
مسلسل يومي (قانون عمر) | 4,4 | 1,4 |
برنامج كاميرا خفية يومي (الصدمة) | 5,4 | لم تعرض الإحصائية |
مسلسل يومي (سلسال الدم) | 1,4 | لم تعرض الإحصائية |
مسلسل يومي (خفة دم) | 1,5 | لم تعرض الإحصائية |
هذه الأرقام المليونية كانت في ستة أيام!
هل تخيلت كم يمكن أن تصل إليه عدد المشاهدات في شهر رمضان كاملاً لخمس مسلسلات فقط على قناة واحدة، على جميع المنصات الرسمية وغير الرسمية؟!
ثم هل تخيلت حجم المشاهدات للمسلسلات العربية والأجنبية في عام أو أكثر فيكل القنوات؟!
أنت أمام أرقام خيالية.
الحاجات والإشباعات
عمق التأثير الذي تحدثه البرامج والمسلسلات الدرامية في نفوس المشاهدين من الشباب والفتيات هو عين ما تقوم به التربية من التوجيه الأخلاقي وغرس القيم وتنظيم التصورات نحو الوجود وما فيه من عناصر وصناعة أنماط معيَّنة في جانب العلاقات وخلق معايير السلوك الفردي والجمعي. وهذا ليس سراً فإنَّ المؤسسات الحكومية المعنية بالفن تذكر ذلك في رؤيتها المنشورة على صفحاتها الرسمية على شبكة الإنترنت.
وحسب (نظرية الرصاصة السحرية)[2] فإنَّ الرسالة الإعلامية الدقيقة التي يرسلها الإعلام لا تخطئ هدفها في التغيير، سواء قتلت أم جرحت، وهذا يعني أنَّ المشاهد ما هو إلا هدف لإطلاق مئات الرسائل اليومية والتي حتماً ستصيبه فيتأثر بها، بشكل يومي. ولذلك فإن ركني الرسالة في هذه الحال (أعني الرصاصة السحرية) هما المرسِل والرسالة فقط، ولا أثر للمرسَل إليه على عملية الاتصال هنا.
وتستخدم وسائل الإعلام نظرية الحاجات والإشباعات، التي هي دليل المكر الإعلامي في إعادة تشكيل الإنسان، ومضمون هذه النظرية أنَّ للإنسان حاجات يمكن أنْ يشبعها من خلال متابعته لوسائل الإعلام، أي أنَّ مشاهدته لما يقدمه الإعلام ينوب عن فعله هو في تلبية حاجاته، وهو وهم يصنعه الإعلام، ويمرِّر من خلال هذه العملية التوجيه القيمي والرسائل المستهدفة.
وهذا يعني أنَّ المشاهد قادر على تحديد النشاط الإعلامي الذي يشبع حاجاته، فتجده يرغب مشاهدة برامج محددة، فتقوم وسائل الإعلام بتلبية رغبته في مشاهدتها بإنتاجها لتلك البرامج التي يقبل عليها المشاهدون، وحسب نموذج كاتز وزملائه فإنَّ الإعلام لا يشبع كل حاجاته أو لا يحقق كل توقعاته فيبقى متعلقاً بالإعلام منتظراً ذلك[3].
ولهذا تتنوع المسلسلات فمنها الدرامي ومنها الكوميدي ومنها التاريخي ومنها الاجتماعي وربما يجتمع في المسلسل جانبان أو أكثر، استقطاباً واستبقاء لعدد أكثر من الجمهور والمشاهدين.
وفي الآونة الأخير تتنافس المنصات في تقديم ألوان الأفلام والمسلسلات والبرامج للمشاهد بالمجان أو بمقابل سعر زهيد، كما اتسعت دائرة الانفلات الأخلاقي والفكري في المعروض، مما يمثل – وفقاً لنظرية الحاجات والإشباعات – خطراً طوفانياً على الفرد والأسرة والمجتمع.
وتمثل السينما والبرامج التلفزيونية تحدياً كبيراً أمام المحاضن التربوية، فاليوم تعدُّ مشاهدتها من أسهل الأمور وأكثرها جاذبية وأعمق حواراً.
التوجيه المطلوب
أقترح في هذه الإطار ما يلي:
- أنْ يكون لدى القائمين على المحاضن التربوية وعي شمولي بما تقدمه وسائل الإعلام للشباب والفتيات. ويحسن أنْ يبادر من يعدُّ مادة تعريفية بذلك بحيث يقدمها للإخوة المربين والمربيات، وبهذه المبادرة نستطيع الحفاظ على أوقات المربين من إهدارها في جهد مكرور، والتخفيف من ضريبة متابعتهم لمستجدات الفن والإعلام. وهنا أقتبس كلاماً لابن تيمية يقول فيه: (ينبغي للوالي والعالم أنْ يكون خبيراً بالشر واسبابه وعلاماته، مثل الخبرة بالكفر والفسوق وأحوال العدو في دينهم ودنياهم؛ ليحترس من شر ذلك)[4].
- الرفع من حصة الموازنة التربوية للقيم والأفكار والتصورات والأخلاق الإسلامية التي تسعى هذه المسلسلات لهدمها وتغييرها. وهذا يتطلب حصر ما يضادها مما تبثه وسائل الإعلام والاتصال بشكل متكرر كالعدمية والعبثية والإباحية والنسوية والجبرية وغيرها من المذاهب والقيم التي تسعى هذه المسلسلات والبرامج في تطبيعها وغرسها في المشاهدين.
- فرز المسلسلات والبرامج في التصور التربوي إلى ثلاث فئات:
- مسلسلات وبرامج محافظة وهي التي تخلو من الانحرافات الفكرية والسلوكيات المنحرفة، وهي تمثل البديل الأسلم إن شاء الله، رغم بعض الثغرات الصغيرة الموجودة فيها، والتي يقول القائمون عليها أنهم لم يستطيعوا التخلص منها.
- مسلسلات وبرامج أقل انحرافاً بحث يمكن علاج هذه المنكرات بالجهد التربوي المستمر، كالمسلسلات التي يؤخذ عليها وجود الموسيقا (المصاحبة تحديداً) مثلاً، ولا يتجاوز تأثيرها إلى إفساد الفكر والعقائد وتطبيع الموبقات.
- مسلسلات وبرامج تجاوز انحرافها إلى إفساد الفكر والعقائد وتطبيع الموبقات.
وبعد الفرز نقوم بتوعية الطلاب وتدريبهم على اتخاذ المواقف المناسبة منها، بحيث يستحضر المربي القواعد الشرعية المتعلقة بتزاحم المصالح والمفاسد، والأولى ألا يجاوز الطلاب والأبناء النوع الأول، ولكن ربما احتاج المربي إلى توجيه طلابه إلى النوع الثاني من المسلسلات (الأقل انحرافاً) تفادياً لما هو أخطر منها، أعني المسلسلات شديدة الانحراف، وباب تقليل المفاسد من الأبواب الشرعية والتي تدل على فقه المربي وقدرته على التعامل مع مستجدات الواقع، وقد قال شيخ الإسلام ابن تيمية: (أنَّ الشريعة جاءت بتحصيل المصالح وتكميلها وتعطيل المفاسد وتقليلها، وأنها ترجح خير الخيرين وشر الشرين، وتحصيل أعظم المصلحتين بتفويت أدناهما، وتدفع أعظم المفسدتين باحتمال أدناهما)[5].
وأجدها فرصة لأفتح القوس مشيراً إلى أهمية قراءة هذا المبحث – الذي اقتبست منه هذ الجملة – بكامله تحت عنوان: [فصل جامع في تعارض الحسنات أو السيئات أو هما جميعاً إذا اجتمعا ولم يمكن التفريق بينهما، بل الممكن إما فعلهما جميعاً وإما تركهما جميعاً] والواقع في الجزء 20 من مجموع فتاوى شيخ الإسلام ابن تيمية في الصفحات 48-61 لأن فيه تفصيلاً مهماً وضوابط ضرورية يلزمنا – بوصفنا مربين – معرفتها.
وأنبه إلى أنَّ هذا يأتي بعد عرض مكتمل للحالة على عالم الشريعة أو طالب العلم العارف بزمانه، ليكون انطلاقنا في المعالجات صادراً عن مستند شرعي.إدراج هدف تربوي جديد وهو: صناعة الشخصية المقاوِمة لتأثير وسائل الإعلام، وتُصنع له الحقائب والأدوات بما يمكن.
4. إدراج هدف تربوي جديد وهو: صناعة الشخصية المقاوِمة لتأثير وسائل الإعلام، وتُصنع له الحقائب والأدوات بما يمكن.
5. تطوير منافسة وسائل الإعلام السلبية، وهو واجب على عموم الأمة، فإلى متى البقاء تحت سيطرة الإعلام الذي يسعى لخطف إيمان الناس وعقولهم وأخلاقهم؟
وهو باب كبير ليس هذا موطن التوسع في قضاياه.
إعلام الواقع
من نوازل العصر ما تبثه لنا وسائل التواصل الاجتماعي على مدار الساعة من بيانات مكتوبة ومصورة في لحظتها والتي تصور حياة الناس اليومية بمختلف شؤونها، ويقوم المتلقي بمشاهدة ذلك والتأثر به.
وبما أنَّ هذه الشبكات أتاحت للجميع أن يبرز نفسه بوصفه نجماً فقد ترتب على ذلك ترسيخاً للتفاهة والرداءة واللامعنى والاستهلاك والتحلل من المروءات وغيرها من معاول هدم التربية الإسلامية.
وبما أنَّ حجب إعلام الواقع ليس ضمن واجبات المربي فإنَّ عليه واجباً آخر هو الأفضل والأعمق أثراً، وهو بناء الشخصية المقاومة للمؤثرات السلبية، من خلال:
- بناء العقل النقدي، القادر على الانتقاء والرفض والتصحيح والتحليل والتحقق والاستشراف والتفتيش.
- الاهتمام بالأهداف التربوية ذات العلاقة العكسية بمضامين إعلام الواقع كالجدية والمروءة والرسالية ومحكمات الشريعة.
- المشاركة الإيجابية والتفاعل النافع في هذه الوسائل.
اللهم احفظ علينا وعلى الشباب إيماننا وإيمانهم.
[1] تاريخ مختصر لوسائل الإعلام الحديثة، تأليف: جيم كولين، ترجمة: أحمد زكي ص195.
[2] انظر: الاتصال ونظرياته المعاصرة، أ.د.حسن عماد مكاوي وَ د.ليلى حسين السيد ص222.
[3] انظر: المصدر السابق ص239 وما بعدها.
[4] السياسة الشرعية ص188.
[5] مجموع الفتاوى 20/48.