بادئ ذي بدء يحسن التنبيه إلى أنَّ مفهوم التجديد لا يعني بالضرورة التغيير، ولكنه حتماً يعني إعادة الشيء إلى ما كان عليه وهو جديد، هذا لازم قول أهل العربية، وهو معنى فيما يبدو أنه كان بديهياً لدى المصنفين لذلك لا تجدهم يعنون بشرحه عند كلامهم على حديث النبي صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مائة سنة من يجدد لها دينها) [أخرجه أبو داود]، أما اليوم فقد اضطربت هذه البديهية لأن كثيرين يستخدمونها في سياق التغيير الجذري والكامل أو تغيير أصول الإسلام، فأصبح من المهم التذكير بأنَّ التجديد هو على ما ذكرت لك، فإذا أعدت الشيء إلى ما كان عليه يوم كان جديداً فقد جددته، سواء بتنقيته أو تهذيبه أو تحسينه، وسواء سميت ذلك تنقية أو تهذيباً أو تحسيناً أو تطويراً أو تغييراً، فلا تهم التسمية هنا بقدر ما يهم المسمى والمضمون.
إننا حين ننادي بالتجديد فإننا لا نزعم أنَّ الماضي لم يكن جيداً و لا نعتقد أنه لم يكن نافعاً ولا يخطر ببالنا أنه لم يكن صالحاً، إننا نعتقد أنَّ هذا الخير الذي نراه اليوم هو نتاج ذلك الماضي بعد رحمة الله وتوفيقه؛ وإنْ وجدت بعض الثغرات كما هو الحال في اجتهادات البشر، وليس هذا محل تقويم الماضي.
بعض العاملين ينظر إلى المحاضن التربوية بوصفها أصولاً أو مبادئ أو ثوابت لا ينبغي تغييرها أو تعديلها أو تجديدها، فهو ينافح عن بقاء سمتها ويجهد نفسه في الحفاظ على شكلها. وفي تقديري أنَّ ذلك يعد من الحيل النفسية لمقاومة التجديد، لأن التجديد يتطلب جهوداً إضافية وتغييراً في بعض العناصر المهمة وابتكار أساليب تربوية جديدة، كما أنَّ التجديد قد يتطلب تغييراً في مواقع العمل وشكله وإجراءاته، والنفس بطبيعتها يصعب عليها الانتقال من إلف إلى إلف جديد، من منظومة أساليب وإجراءات وطريقة تفكير إلى منظومة أخرى مختلفة.
جميع الأنشطة التربوية هي قوالب عمل وليست منهجاً، وهي أساليب ووسائل وليست ثوابت، ونحن علينا المحافظة على المنهج والثوابت لا المحافظة على القوالب والأساليب والوسائل.
ومنشأ هذه الحيل النفسية هي العاطفة التي تغلب العقل، العاطفة التي يحذِّر خبراء الإدارة من نشوئها بين العامل ومؤسسته؛ فهي تدفع إلى مقاومة إحداث أي عمل جديد وتعظم الثبات على شكل واحد لأنماط الحياة العملية.
وبعض العاملين يرغب التجديد والتطوير فيجري عدداً من التحسينات الشكلية ثم هو يكتفي بها في سياق التجديد ومواكبة الجديد، لكنه لا يرغب أنْ يدخل منظومة العمل في مطبخ التجديد، وهذا ما يمكن تسميته بوهم التجديد.
ومنشأ هذه الإشكالية اعتقاد أنَّ الأهداف التربوية المتعارف عليها اليوم في محاضن التربية ثوابت وأصول، وهي ليست كذلك، فإنَّ المربين تتركز وظيفتهم في بناء الإنسان الصالح، فلا مانع من إجراء التعديلات على الأهداف التربوية في سبيل التركيز على الوظيفة الرئيسية، ذلك أنَّ اقتراح الأهداف التربوية في أصله بُني على عدد من المعطيات، والتي من ضمنها واقع الشباب ومحيطهم، وهذه المعطيات تتغير فوجب تغيير الأهداف التربوية معها.
وإذا تغيرت الأهداف التربوية تغيرت معها وتبعاً لها بعض المقررات والمضامين والإجراءات.
نحن بحاجة إلى أنْ ننظر إلى المحاضن التربوية بتجرد عن العاطفة والهوى، وذلك من خلال الآتي:
- تقويم بيئات العمل التربوي الحالي تقويماً موضوعياً.
- توصيف وتحليل واقع الشباب اليوم بوصفه من أهم المعطيات في عملية التخطيط التربوي.
- بناء الأهداف التربوية (الجديدة) بناء سليماً.
الرفض المبرر
عدد من المربين الفضلاء يتساءلون عن جدوى التجديد في ظل نجاحاتهم التربوية والإدارية، فعدد الطلاب كثير ونسبة التسرب ضئيلة وانسيابية العمل مريحة وتحقق النتائج مستمر.
لا شك أنَّ التجديد ليس هدفاً في ذاته، فإذا كان المحضن التربوي يقوم بدوره على أحسن الوجوه فما الداعي إلى إحداث تغييرات وتعديلات عليه؟ وما المبرر لزلزلة الراضي المستقرة؟
وأودَّ أنْ أنبه إلى عدد من النقاط المهمة:
- حين نحكم على نجاح عمل تربوي أو محضن تربوي فإنه يستلزم وجود عناصر تقويم مسبقة ومعايير نجاح مفهومة.
- أهمية المراجعة المستمرة لأنشطتنا التربوية وتقويمها بموضوعية.
- تغير المعطيات يؤدي – حتماً – إلى إحداث تغيير الأهداف التربوية.
- التجديد ليس استجابة للإخفاق فحسب، بل يأتي استجابة لأكثر من ذلك، فهو يأتي استجابة للإخفاق أو استجابة لواقع جديد أو استجابة لتحدٍ مستقبلي أو استجابة لفرص أقوى.
- الحذر من تحول العمل إلى إجراءات آلية اشبه ما تكون بالميكانيكية، كعمل الآلات داخل محرك السيارة، فهي عمليات محدودة متكررة ذات مخرج محدد تتأثر سلباً بالتكرار والزمن. ينبغي أنْ تتسع نظرتنا للمخرج التربوي، وذلك إذا نظرنا إلى العمل التربوي بوصفه ديناميكية تفاعلية لا تتوقف عن الإنتاج المتجدد والمتنوع والتراكمي.
ولدينا عدد من المربين الفضلاء يودون التجديد ولكنهم يخشون الخطأ والإخفاق في ابتكار مشاريع تربوية جديدة، إنهم واقعيون في نظرتهم إلى عملية التجديد بوصفها مهمة يكتنفها الغموض والمصير المجهول. حسناً؛ لهم ألا يقحموا في مسألة هذا بعض شأنها، وفي هذه الحال فإنَّ علينا أنْ يكون هذا الأمر أحد معطيات عملنا التجديدي، لا أنْ يكون مبرراً للتوقف عن التجديد.
ولدينا بعض المربين يرون أنَّ الحلقة القرآنية في شكلها اليوم هي التطبيق الوحيد لحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (خيركم من تعلم القرآن وعلمه)[أخرجه البخاري]. وعليه فإنه يجب الحفاظ على الحلقة الفلانية س والتي لم تعد تخرج طلاباً ولا تقدم نتائج تربوية كما كانت في السابق. والحق أن الحلقة القرآنية المعروفة اليوم ورغم أهميتها وحرصنا على الحفاظ عليها إلا أنها تعد قالباً من قوالب تعلم القرآن وتعليمه الوارد في الحديث وقالباً من قوالب التربية الإسلامية، فالواجب بذل ما يمكن في سبيل تطويرها، فإن لم يجد نفعاً فلا مانع من التحول عنها إلى قالب آخر يتعلم فيه النشء كتاب الله تعليماً تتوفر فيه العناصر الثلاثة: الحفظ والفهم والتربية على العمل به. وهذا التصور يتوافق ما كان عليه الصحابة الأجلاء والتابعون ومن بعدهم.