دائماً ما تحتل التعريفات محل الصدارة في التصنيف والتقعيد، وذلك لأهميتها فهي التي تصنع صورة المفهوم، وهي التي تجعل له إطاراً شاملاً لكل مفرداته وعناصره، وبهذا الإطار نستطيع أنْ نعرف ما يمكن دخوله في مربع المفهوم أو خروجه منه.
والتربية في اللغة: مشتقة من ربى، قال ابن فارس: (الراء والباء والحرف المعتل وكذلك المهموز منه يدل على أصل واحد، وهو الزيادة والنماء والعلو. تقول من ذلك: ربا الشيء يربو، إذا زاد. وربا الرابية يربوها، إذا علاها. والرَّبوة والرُّبوة: المكان المرتفع. ويقال أربت الحنطة: زكت، وهي تُرْبي)[1]. وحكى ابن منظور عن الأصمعي قال: ربُوتُ في بني فلان أربو نشأتُ فيهم، وربَّيتُ فلاناً أُربِّيه ترْبيةً وترَبَّيتُهُ ورَبَبْتُهُ وربَّبتُه بمعنى واحد. وعن الجوهري قال: ربَّبْته تربِية وترَبَّيْته أي غذوته، هذا لكل ما يَنْمِي كالولد والزرع ونحوه[2].
وللتربية العديد من التعريفات الاصطلاحية والتي تصب في معنى النشاط الذي يُقصد به تغيير الإنسان والانتقال به من حالته الراهنة إلى الحالة النموذجية.
وإذا تأملنا اشتقاق التربية في اللغة وتعريفها فإننا سنخرج بعدد من الدلالات المهمة:
أولاً.. التربية تحمل معنى النمو والزيادة، وقد ورد هذا نصاً في قول النبي صلى الله عليه وسلم: (من تصدق بعدل تمرة من كسب طيب، ولا يقبل الله إلا الطيب، وإنَّ الله يتقبلها بيمينه، ثم يربيها لصاحبها كما يربي أحدكم فَلُوَّه، حتى تكون مثل الجبل)[3]. فالأصل أنَّ التربية تتضمن هذين المعنيين (أعني النمو والزيادة) في مقصودها وأهدافها، وما لم تتضمنهما فإنَّ علينا مراجعة هذا العمل وتصحيحه.
ثانياً.. النمو يفيد (التدرج) وليس (الطفرة) وهنا يبرز عامل الزمن باعتباره ظرفاً للتدرج في التربية. وعملياً تفيدنا دلالة الزمن بأهمية الصبر وطول النفَس وعدم استعجال النتائج والثمار في التربية، فإنَّ التربية الجيدة ستُحدث التغيير المطلوب إن شاء الله، ولكن بشكل بطيء وربما يطول أمده، فهي إذاً حتمية التأثير.
كما أنَّ إفرازات الطفرة لا تستطيع الصمود أمام منتجات التدرج، أي أنَّ الثبات والديمومة إنما تكتب لما ينتج عن التدرج.
ثالثاً.. التربية ليست عملية توجيه وتلقين فقط، بل تشمل الرعاية والإصلاح والتهذيب، وهي ليست قصراً على غرس التدين فحسب أو الجانب العلمي والعقلي فحسب، بل تشمل أيضاً البدن (كما يربي أحدكم فلوه) أي مهره، كما تشمل جانب العقل والتفكير والنفس. فهي إذن عملية تحسين شموليه لمستوى الإنسان في كافة مكوناته، وهي تغيير حقيقي نحدثه في كل عناصر الإنسان.
رابعاً.. التربية تحمل معنى إدارياً، فهي عملية منظمة توصل إلى هدف، وبالتالي فينبغي التعامل معها بهذا الوصف.
خامساً.. الحالة النموذجية (أو الهدف التربوي) تتغير من أمة إلى أمة، حسب ثقافتها ومعتقداتها، ولذلك قال خبير التعليم في بريطانيا (سيربرسي نَنْ) : لقد سلك الناس مسالك مختلفة في التعريف بالتربية، ولكن الفكرة الأساسية التي تسيطر عليها جميعاً: أنَّ التربية هي الجهد الذي يقوم به آباء شعبٍ ومربوه لإنشاء الأجيال القادمة على أساس نظرية الحياة التي يؤمنون بها. إنَّ وظيفة المدرسة أنْ تمنح للقوى الروحية فرصة التأثير في التلميذ، تلك القوى الروحية التي تتصل بنظرية الحياة، وتربي التلميذ تربية تمكن من الاحتفاظ بحياة الشعب وتمد يدها إلى الأمام[4].
التربية في كل أمة لا تنفصل عن عقيدتها، ولذلك فحين نقول: الحالة النموذجية، فيجب على المؤسسة التربوية الإسلامية – في حجمها الكبير أو الصغير – أنْ يكون لديها تعريف واضح لهذه الحالة، ومواصفات ومعايير، ليكون هدف التربية جلياً واضحاً للمخططين والعاملين.
سادساً.. وإن كان المفترض في سير التربية الصعود الدائم إلا أنَّ وجود احتمالات السقوط والهبوط واردة لعدد من الاعتبارات، منها: الطبيعة البشرية ذات النوازع والرغبات التي تغلب أحياناً الروح والعقل، وقد أخبرنا الله تعالى عن نحو هذا فقال: ﴿كَلَّآ إِنَّ ٱلۡإِنسَٰنَ لَيَطۡغَىٰٓ . أَن رَّءَاهُ ٱسۡتَغۡنَىٰٓ ﴾[العلق:6-7]. وقال في حق جماعة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: ﴿إِنَّ ٱلَّذِينَ تَوَلَّوۡاْ مِنكُمۡ يَوۡمَ ٱلۡتَقَى ٱلۡجَمۡعَانِ إِنَّمَا ٱسۡتَزَلَّهُمُ ٱلشَّيۡطَٰنُ بِبَعۡضِ مَا كَسَبُواْۖ وَلَقَدۡ عَفَا ٱللَّهُ عَنۡهُمۡۗ إِنَّ ٱللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٞ﴾[آل عمران:155].
ومنها: الآفات والعوارض التي تعرض للإنسان في تربيته، كما تعرض له الأمراض والأوبئة والكوارث في تنشئته وحياته.
لكن التربية قادرة على تجاوز هذه الآفات والعوارض بأقل الخسائر، ولربما بأفضل النتائج، إذا أحسنا التعامل معها في برنامجنا التربوي.
هذه بعض الملحوظات والدلالات رأيت أنه من المهم التذكير بها في سياق مفهوم التربية.
[1] مقاييس اللغة 2/483.
[2] لسان العرب 14/307.
[3] أخرجه البخاري (1410).
[4] انظر: نحو التربية الإسلامية الحرة، أبو الحسن الندوي، ص75 وما بعدها.