ثمة أمور تجعلنا نزداد تمسكاً بالتربية، بوصفها ضرورة استراتيجية، وليست خياراً، وتجعلنا دائمي التذكير بأهميتها وقوتها.
منها: أنَّ التربية أساس التغيير في المجتمعات، أي أنَّ المجتمعات تتغير حسب بوصلة التربية المقدمة فيها، ولهذا فإنَّ كثيراً من الجهود الإصلاحية التي أُسست على مبدأ التربية والتعليم استطاعت التغيير في مجتمعاتها، ومن الأمثلة القريبة والواضحة ما قامت به جمعية العلماء المسلمين بالجزائر من جهد تربوي، عكفت عليه في ظل وجود المستعمر في بلدها، يحكم البلد ويتحكم في الموارد ويفرض المناهج، وما كلَّت ولا ملَّت حتى آتت ثمار جهودها التربوية والتعليمية.
في خطاب له قال البشير الإبراهيمي: (إنَّ المهمة التي تقوم جمعية العلماء المسلمين بأدائها – وهي السير بهذه الأمة إلى الحياة من طريق العلم والدين – هي أقوم الطرق وأمثلها وأوفقها لمزاج الأمة)[1].
والله سبحانه وتعالى قد قال من قبل ذلك: (لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة)[الأحزاب:21]. ومن المعلوم المتحقق علمه أنَّه صلى الله عليه وسلم اعتمد في بناء دعوته على تربية الأصحاب، الذين قامت على أكتافهم بعد ذلك الدعوة الخالدة الراسخة في الأرض، فما يستطيع اقتلاعها أحد أو جماعة أو كيان.
التغيير بلا تربية قفز على المراحل، وحرق للأوراق، وإهدار للمقدرات، ولذلك سجل د.مصطفى حجازي ملاحظته القيمة على حركات التحرر الثورية ضد احتلال المستعمر؛ والتي لم تعتنِ بجانب التربية بوصفها مرتكزاً للتغيير، فقال: (تدل الشواهد التاريخية على أنَّ تحرر شعب ما؛ من الاحتلال أو القهر والاستبداد، واسترداد حريته الوطنية لا يضمنان له حسن استغلالها ذاتياً بالضرورة. رفع الاحتلال هو نصف المعركة، ويبقى نصفها الآخر المتمثل في ترميم الدمار الذاتي الذي غرسه الاستعمار أو الاستبداد في النفوس. بذلك وحده تسترد إمكانية إطلاق الطاقات الحية الأصيلة، وتتحرك آلية النماء ذاتياً ووطنياً)[2].
ومنها: أنَّ التربية منهج ارتضاه الله تعالى لرسوله صلى الله عليه وسلم في بعثه للأمة الجديدة، قال تعالى: (لقد من الله على المؤمنين إذ بعث فيهم رسولاً من أنفسهم يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين)[آل عمران:164] وهو منهج واضح لدى الأنبياء، لذلك دعا إبراهيم عليه السلام ربه تعالى أنْ (ربنا وابعث فيهم رسولاً منهم يتلو عليهم آياتك ويعلمهم الكتاب والحكمة ويزكيهم إنك أنت العزيز الحكيم)[البقرة:129].
فالعاملون في صفوف التربية والتعليم من آباء وأمهات ومربين ومربيات إنما يسيرون على الخطى التي سار عليها الأنبياء عليهم السلام، وكلما اجتهد الإنسان في الاقتداء بهم كان أقرب إلى السداد والعصمة من غيره.
ومنها: أنَّ التربية هي الواجب الممكن والمقدور عليه في كل الظروف والأحوال، في حالة الرخاء والغنى وحالة المسغبة والفقر، وفي حالة الأمن والخوف، وفي حالة الاستقرار والاضطراب، إذ التربية في جوهرها بناء للإنسان، فالبناء ممكن في كل حال، إلا أنه تتغير درجاته من حال إلى حال، وتتفاوت مستوياته من ظرف إلى ظرف. أما الحال التي لا يمكن فيها القيام بأي جهد تربوي فهي حال استثنائية شاذة، لا حكم لها.
الوالدان لا ينفكان عن تقديم جهد تربوي لأولادهما مهما كانت الظروف، وكذلك المربون يستطيعون أنْ يقدموا جهداً تربوياً يتناسب والظروف التي تحيط بهم.
في أحلك الظروف التي عصفت بموسى عليه السلام وقومه؛ وقد دنت ساعة المواجهة الكبرى مع فرعون وجنوده جاءهم أمر رباني: (وأوحينا إلى موسى وأخيه أنْ تبوءا لقومكما بمصر بيوتاً واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة)[يونس:87]. وحين اشتد على أبي بكر الصديق رضي الله عنه اقتراب المشركين من رسول الله صلى الله عليه وسلم وهما في الغار؛ جاءه توجيه نبوي: لا تحزن إنَّ الله معنا. كل ذلك تربية في ظل ظروف صعبة.
التربية لا تقف.
بل إنَّ الشواهد لتدل على أنَّ التربية في زمن الشدائد تؤتي نتائج أكثر عمقاً ورسوخاً من التربية في زمن الرخاء والسعة، وفي كلٍ خير وبركات. وما على الإنسان إلا أنْ يبذل المستطاع الذي كلفه الله به، فإذا فعل ذلك فإنَّ الله تعالى سيعينه ويهديه إلى أفضل السبل (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا وإن الله لمع المحسنين﴾[العنكبوت:69].
ومنها: أنَّ التربية هي خط الدفاع الأخير عن الأمة وهويتها، إذ هي تراهن على ذات الإنسان، من داخله: قلبه وجوارحه وكيانه، فتقيمها لله ولو كان حولها عشرات الأصنام والأوثان، وتنقي تصوراتها ولو غُمر إدراكها بالوسائط الإعلامية الفاسدة والمقررات المنحرفة، وتسويها ولو كثرت عليها معاول الهدم، وهذا المعنى أستقيته من حديث الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم: (من رأى منكم منكراً فليغيره بيده، فإنْ لم يستطع فبلسانه، فإنْ لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان)[3].
ومحل الشاهد هنا هو قدرة القلب على الاحتفاظ بحياته رغم إحاطة الباطل به إحاطة السوار بالمعصم، فإنَّ تغذيته وتربيته على مفاهيم القرآن ونقاء التوحيد والتخلص من أسر الشهوات هو الحصن الأخير الذي تلوذ به جنود الإيمان في القلب، ثم لا يلبث أنْ ينبعث الإنسان المؤمن هذا من جديد، ليحمل الرسالة وليقيم الدين فيمن حوله، ثم هو سيدافع عن الأمة وهويتها وأرضها بعد ذلك.
وعن ثوبان رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (يوشك الأمم أنْ تداعى عليكم، كما تداعى الأَكَلة إلى قصعتها). فقال قائل: ومِن قلَّةٍ نحن يومئذ؟ قال: (بل أنتم يومئذٍ كثير، ولكنكم غثاء كغثاء السيل، ولينزعنَّ الله مِن صدور عدوِّكم المهابة منكم، وليقذفنَّ الله في قلوبكم الوهن). فقال قائل: يا رسول الله، وما الوهن؟ قال: (حب الدنيا، وكراهية الموت)[4].
فانظر كيف يلفت الحديث نظرك إلى نقطة التركيز في سبب تداعي الأكلة، إنها أمراض النفوس.. أمراضنا نحن من الداخل هي الموجبة لتداعي الأمم علينا، وهي سبب ضعفنا وهواننا عليها، وهذا فيه إشارة جلية إلى أنَّ تزكية النفوس وتربيتها على الاستقامة هما مفتاح الانعتاق من قيد القوى الأجنبية.
وفي تاريخ المرابطين عبرة! بضعة أشخاص يقيمون الدين في خاصة نفوسهم ويربيهم على الإسلام ويفقههم في دينه الفقيهُ عبد الله بن ياسين، في بلادٍ هجرت الإسلام ونفرت من تكاليفه، فإذا بهم يشكلون نواةً للدفاع عن بلاد الأندلس في مواجهة النصارى هناك. وما بين المدتين يذكر التاريخ الأثر الطيب الذي طبعته هذه المجموعة الصغيرة في قبائل المغرب الإفريقي من إعادة الناس إلى دين الله.
وما جمعية العلماء المسلمين بالجزائر عنا ببعيد.
[1] آثار الإمام البشير الإبراهيمي 1/142.
[2] الإنسان المهدور، د. مصطفى حجازي ص320.
[3] أخرجه مسلم (78).
[4] أخرجه أبو داود (4297).
كتب الله أجركم شيخنا
هناك خطأ في الآية
(و أوحينا إلى موسى و أخيه أن تبوءا
لقومكما *لمصر* بيوتا و اجعلوا بيوتكم قبلة)
إعجابإعجاب
شكر الله لك، تم التصحيح فوراً.
لا عدمتك.
إعجابإعجاب