لا شك أنَّ العمل للإسلام – والتربية في القلب منه – شرف عظيم وجهاد كبير يصطفي الله له من يشاء من عباده فضلاً منه وكرماً، فإذا صدق العاملون في نياتهم وتقبل الله أعمالهم كان لهم من المنزلة العظيمة والجليلة بقدر إسهاماتهم، قال الله تعالى: ﴿ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً وقال إنني من المسلمين﴾[فصلت:33] قال عبد الله بن المبارك: أخبرنا معمر عن الحسن قال: كان إذا تلا الآية قال: (هذا حبيب الله، هذا ولي الله، هذا صفوة الله، هذا خيرة الله، هذا أحب أهل الأرض إلى الله، أجاب الله في دعوته، ودعا الناس إلى ما أجاب الله فيه من دعوته، وعمل صالحا في إجابته ﴿وقال إنني من المسلمين﴾ هذا خليفة الله)[1]. وقال السعدي في قوله تعالى: ﴿ومن أحسن قولاً ممن دعا إلى الله وعمل صالحاً﴾: (بتعليم الجاهلين، ووعظ الغافلين والمعرضين، ومجادلة المبطلين، بالأمر بعبادة الله، بجميع أنواعها، والحث عليها، وتحسينها مهما أمكن، والزجر عما نهى الله عنه، وتقبيحه بكل طريق يوجب تركه، خصوصًا من هذه الدعوة إلى أصل دين الإسلام وتحسينه، ومجادلة أعدائه بالتي هي أحسن، والنهي عما يضاده من الكفر والشرك، والأمر بالمعروف، والنهي عن المنكر. ومن الدعوة إلى الله، تحبيبه إلى عباده، بذكر تفاصيل نعمه، وسعة جوده، وكمال رحمته، وذكر أوصاف كماله، ونعوت جلاله. ومن الدعوة إلى الله، الترغيب في اقتباس العلم والهدى من كتاب الله وسنة رسوله، والحث على ذلك، بكل طريق موصل إليه، ومن ذلك، الحث على مكارم الأخلاق، والإحسان إلى عموم الخلق، ومقابلة المسيء بالإحسان، والأمر بصلة الأرحام، وبر الوالدين. ومن ذلك الوعظ لعموم الناس، في أوقات المواسم، والعوارض، والمصائب، بما يناسب ذلك الحال، إلى غير ذلك، مما لا تنحصر أفراده، مما تشمله الدعوة إلى الخير كله، والترهيب من جميع الشر)[2].
فلماذا يعزف كثيرون عن العمل التربوي وهو في قلب الدعوة إلى الله وإصلاح الناس؟
هناك عدد من الأسباب التي تدفع إلى هذا الاتجاه، منها:
أولاً.. ضعف الأهلية، إذ التربية تتطلب نمطاً من الشخصية لديه قدرات تواصلية عالية ومهارات قيادية وإقناعية وطول نفَس وغيرها من المواصفات التي ينبغي أن تتحلى بها شخصية المربي ليكون مؤثراً في تربيته، ولو في حدها الأدنى. وكون هذه الشخصية غير قادرة على الإنجاز والتأثير في الأعمال التربوية يجعلها بطبيعة الحال تعزف عن الانخراط في فرق العمل المشتغلة بالتربية. وهذا الأمر طبيعي، فكل ميسر لما خُلق له، وإذا صحت النية وصدقت العزيمة فسينفع الله به في موطن آخر وثغر آخر من ثغور الدعوة الإسلامية.
ثانياً.. العمل التربوي ليس له نجومية، وطبيعته تتباين عن الشهرة، وأهله ليسوا ممن تتسابق إليهم الأضواء أو تشرئب إليهم الأعناق، فهم مغمورون غارقون في محاضنهم التربوية يوجهون ويعلمون، ووقتهم مستهلك في معايشة الطلاب ومصاحبتهم وإرشادهم.
وفي ظل العلو الإعلامي والنجومية المتشظية يصاب البعض بخلل في التقييم فيظن أنَّ النفع والأجر مرتبط بالشهرة والظهور، الأمر الذي يجعل العديد يعزفون عن العمل التربوي ظناً منهم أنَّ تأثيره محدود ونفعه أقل وبالتالي فإنَّ أجره يتضاءل.. ولو كان ابن الجوزي رحمه الله حياً لأدرج هذه الفقرة في كتابه تلبيس إبليس؛ لأنَّ هذا مما يلقيه الشيطان في روع البعض: أنَّ أكثر الناس نفعاً أكثرهم جمهوراً، وأشعر أحياناً أنَّ فقرة الأرقام الموجودة في عدَّاد المنجَزات والمشاهَدات والمتابَعات والتفاعلات فقرة ربما تشغل عن المضمون والجوهر، وتغش في التقويم، وتصنع الضباب حول الحقائق، فهي بهذا التوصيف تجسيد لمعنى الآية الكريمة: ﴿ألهاكم التكاثر﴾[التكاثر:1].
ثالثاً.. بُعد الشُقَّة وطول المسافة فلا تُلمس نتائج التربية إلا بعد مدة طويلة نسبياً، فلربما تسلل الشعور بخيبة الأمل أو الخوف من الإخفاق أو ضعف التأثير أو اليأس من الأجيال الناشئة؛ إلى من قصر نظره التربوي، فيدفعه ذلك إلى العزوف عن المشاركة في الأعمال التربوية. والله تعالى أخبرنا أنَّ المسافات القصيرة والأعمال ذات النتائج القريبة مغرية للبعض في الانخراط في أعمال هذا بعض شأنها، فقال: ﴿لو كان عرَضاً قريباً أو سفراً قاصداً لاتبعوك ولكن بعدت عليهم الشقة﴾[التوبة:42] وهي وإنْ نزلت في المنافقين – ولا أقصدهم هنا – إلا أنها تحكي حالة.
يغيب عن أصحاب النظر القصير أنَّ التربية مؤثرة بشكل رأسي وعميق، وأن تأثيرها بعيد المدى ويمتد لأجيال لاحقة، وأنَّ منافعها الرأسية تتسلسل مشكِّلة هرماً تتسع قاعدته يوماً بعد يوم.
يغيب عنهم أنَّ جُل عبادات الناس وتلاواتهم للقرآن الكريم وحفاظهم على عقيدتهم هو نتيجة تربية ما، تلقوها في زمن ماضي.
والعمل التربوي يتطلب تفاؤلاً وصبراً ونفَساً طويلاً ونفْساً لا تتلهف للنتائج السريعة. أبو عبد الرحمن السلمي في تعليقه على حديث عثمان بن عفان رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (خيركم من تعلَّم القرآن وعلمه)[3] قال: (وذاك – أي هذا الحديث – الذي أقعدني مقعدي هذا) فأقرأ أبو عبد الرحمن السلمي القرآن الكريم في فترة طويلة امتدت من خلافة عثمان بن عفان رضي الله عنه إلى زمن ولاية الحجاج العراق لعبد الملك بن مروان حينها، قال الحافظ ابن حجر: بين أول خلافة عثمان رضي الله عنه وآخر ولاية الحجاج العراق: اثنتان وسبعون سنة إلا ثلاثة أشهر. وبين خلافة عثمان رضي الله عنه وأول ولاية الحجاج العراق ثمان وثلاثون سنة)[4]. قال أبو إسحاق السبيعي: (إنَّ أبا عبد الرحمن السلمي كان يقرئ الناس في المسجد الأعظم أربعين سنة)[5]. ولك أنْ تتأمل هذه المدة التي مكث فيها أبو عبد الرحمن السلمي يعلم فيها القرآن الكريم، وقد اشتملت على ألوان مختلفة من الظروف، ففيها وقعت الفتنة ودامت زمناً، وفيها انتقلت الخلافة من المدينة إلى الكوفة، وفيها وقع الصلح بين المسلمين، وفيها قامت المروانية، وفيها تسلط الحجاج على العراق، ولا يزال هذا الإمام يقرئ الناس ويعلمهم القرآن.
رابعاً.. العمل التربوي لا يعمل في مناطق التَّماس، فلا توجد فيه مناظرات تلفزيونية، ولا خصومات فئوية، وهي أمور من شأنها أن تصنع شهرة ما، ومن شأنها أن تصبح حديث الناس والإعلام، ومن شأنها أنْ تُحدِث ضجيجاً ما يجذب الانتباه ويلفت الأنظار. وإنما يتم العمل التربوي في جِواء من الهدوء والسكون، ومحاضنه بعيدة عن الضجيج والإثارة، ووظيفة أهله تقديم برامج نافعة وغير جالبة للعداء، فربما يرى البعض أنَّ هذا يتنافى مع التأثير والنفع، فيعزف عنه. وهذا خطأ في التصور.
خامساً.. قصر مفهوم العمل التربوي على تربية المجموعات القليلة العدد، بينما في حقيقة الأمر أن العمل التربوي له أفق أوسع، فهو يشمل – إضافة إلى تربية المجموعات القليلة العدد – التربية العامة للأعداد الغفيرة، والأعمال الإعلامية الخادمة للتربية، والبرامج التي من شأنها ترسيخ محكمات الدين وقواعد الإسلام، إذا أخذنا بعين الاعتبار أن التربية تعني: العمل المقصود والممنهج الذي يهدف إلى الارتقاء بالأفراد من حالتهم الراهنة إلى الحالة النموذجية، وتمثل هذه الحالة النموذجية في التربية الإسلامية الإنسان الصالح، والذي له صفات ومعايير ليس هذا موضع بسطها.
فإذا اتسع فهمنا للتربية الإسلامية، فإننا سننتج العديد من البرامج والقوالب التي نقدم من خلالها عملاً تربوياً، لا سيما في هذا العصر الذي يفرض علينا أنْ نراجع فهمنا لفلسفة التربية الإسلامية.
سادساً.. العمل التربوي مشغل عن الصفق في الأسواق، ومعيق عن المناصب والجاه، فيفوت على المشتغل بالتربية حظ وافر من المال والمناصب، والمربي حين يجول بنظره يمنة ويسرة يرى أقرانه ومعارفه يفوزون بالدنيا، في الوقت الذي فاته فيه هذا الحظ، ومع بعد النتائج والشعور بضعف التأثير أحياناً، فإن قلبه لربما يتزلزل أمام هذه المعادلة، والله سبحانه أخبرنا أن الشيطان لا يزال يخوف من المصير المالي البائس: ﴿الشيطان يعدكم الفقر ويأمركم بالفحشاء والله يعدكم مغفرة منه وفضلاً والله واسع عليم﴾[البقرة:268]، عن سبرة بن أبي فاكه، قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: (إنَّ الشيطان قعد لابن آدم بأطرقه، فقعد له بطريق الإسلام، فقال له: أتُسلم وتذر دينك ودين آبائك وآباء أبيك؟ قال: فعصاه، فأسلم، ثم قعد له بطريق الهجرة، فقال: أتهاجر وتذر أرضك وسماءك، وإنما مثل المهاجر كمثل الفرس في الطول، قال: فعصاه فهاجر، قال: ثم قعد له بطريق الجهاد، فقال: هو جهد النفس والمال، فتقاتل فتقتل، فتنكح المرأة ويقسم المال، قال: فعصاه فجاهد) فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (فمن فعل ذلك منهم فمات، كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو قتل كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، وإن غرق كان حقاً على الله أن يدخله الجنة، أو وقصته دابة كان حقا على الله أن يدخله الجنة)[6].
سابعاً.. ضعف الإدارة التربوية، الذي يتمثل في وجود ثغرات مزعجة في العمليات الإدارية المتنوعة كالتخطيط والمتابعة والتوجيه والتقويم وتسيير العمل ومعالجة المواقف…إلخ.
وفي الحقيقة أنَّ وجود الثغرات ووقوع الأخطاء أمر طبيعي، وينبغي أن يكون في حجمه الصحيح، كما ينبغي أن يعالج في حينه، وهذا لا يعتبر سبباً مقنعاً ما دام أنه يحدث بهذا السياق، أما إذا تجاوزت الأخطاء نصابها المعقول فإن عدداً من المشتغلين بالتربية سيفضلون النأي بأنفسهم عن العمل التربوي.
إنَّ الاشتغال بالعمل التربوي في أفقه الواسع والاستمرار فيه يتطلب مفهوماً صحيحاً للتربية، وقناعة راسخة بأثرها ونفعها وفضلها، وصحبة صالحة معينة على الصبر لأوائها ومعاناتها، ولجوء دائم إلى الله تعالى أن يكون هو الهادي والمثبِّت والآجِر.
[1] الزهد والرقائق لابن المبارك 1/507.
[2] تفسير السعدي 4/1573.
[3] أخرجه البخاري (5207).
[4] فتح الباري لابن حجر 8/694.
[5] معرفة القراء الكبار للذهبي 1/147.
[6] مسند الإمام أحمد (15958).