في الحادي عشر من شوال عام 569هـ توفي البطل المجاهد، والملك العادل، والتقي الزاهد نور الدين محمود زنكي.
بشكل مباشر أود الحديث عن الأمر الذي لفت نظري في سيرته، ففي خضم انشغاله بالعسكرية الإسلامية، وحبس نفسه لقتال الغزاة الصليبيين، وتصديه للنشاط الباطني المستعر سياسياً واجتماعياً، يختلس نور الدين زنكي ذاته من السلاح ليأوي إلى الكتاب والمعلِّم! فتتشكل له قناعة بالأثر الكبير للتعليم الإسلامي السُني، فيبتكر فكرة إنشاء داراً مخصصة للحديث وأهله، فيبني في دمشق دار الحديث باعتبارها أول دار حديث في العالم، ويجهزها بكل ما يلزم من مرافق وشيوخ، ويكلف الحافظ ابن عساكر بالقيام بها، فيتخرج فيها كبار رجال الحديث كالحافظ ابن كثير والبرزالي والمزي وغيرهم.

لم تكن دار الحديث فلتة فكر، بل نموذج ابتكار، وإلا فإنه أنشأ العشرات من المدارس والدور العلمية (التي تقوم مقام كليات علمية) في شتى العواصم التي امتدت إليها يد دولته، ومدارس للعلوم الهندسية، ومستشفيات لتطبيب المرضى ولتدريس الطب، أشار إليها ابن جبير الأندلسي في رحلته إلى الشام.
وهذا فعلاً يستوقف القارئ، لأن الرجل عسكري، بل العائلة يغلب عليها العسكرية، فكيف جاءت الفكرة هذه؟
من يريد التغيير الإيجابي في المجتمعات وتجديد الإسلام فيها والحفاظ على الإسلام في أجيالها الناشئة فعليه بالتربية والتعليم، صابراً على ذلك محتسباً أجر الرباط. فالتاريخ شاهد على أنهما مفتاح التغيير والتأثير.

في حقيقة الأمر أنَّ الأمر الذي دعاني لخط هذه التدوينة هو موقف عميق الدلالة، حيث قلة النفقة وزادت التكاليف المتعلقة بجهاد الصليبيين، فأشار إليه بعض وزرائه أنْ لو أخذت بعضاً من الأموال المرصودة للفقراء والمساكين، وجعلتها في مصارف الجهاد، فقال رحمه الله: (والله إني لا أرجو النصر إلا بأولئك، فإنما تُرزقون وتنصرون بضعفائكم، كيف أقطع صلات أقوام يقاتلون عني وأنا نائم على فراشي بسهام لا تخطئ، وأصرفها على من لا يقاتل عني إلا إذا رآني، بسهام قد تصيب وقد تخطئ؟! وهؤلاء لهم نصيب في بيت المال، كيف يحل لي أن أعطيه إلى غيرهم؟) الكامل 9/463. نظرة فائقة الجمال نحو الاستثمار في التربية والتعليم.