مهما اختلفت تخصصات المحاضن التربوية وتنوعت أهدافها، إلا أنه من المتحتم أنْ يكون بينها (قدْر مشترك) من الأهداف التربوية تسعى جميعها في تحقيقه، ولا تتنازل عنه، بحيث لا يمكن للمستفيد اجتياز المرحلة التربوية بدون تحقيقها، وإحالتها إلى شكل من أشكال المخرجات التربوية.
وإذا كان لكل محضن مخرجاته الخاصة، فيمكننا القول بأنه توجد أربع سمات مشتركة لهذه المخرجات، وهي: الصفاء في المعتقدات والاستقامة في السلوك والإيجابية في العلاقات والاعتدال في الشخصية.
الصفاء في المعتقد والتصورات
أهم نتيجة تحققها المحاضن التربوية هي صفاء المعتقد الإسلامي وسلامة التصورات الإيمانية من الشوائب والتشوهات، فإنَّ أجيال اليوم تتعرض لكم كبير من البيانات والواردات التي تشوه حقائق الإيمان والخلْق والحياة، بينما لدينا في المنهج الإسلامي التصورات الناصعة والعقيدة البيضاء مقررتان في كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم وهما المصدر الرئيسي لما ينبغي فهمه وإدراكه حول معرفة الرب والرسل والكتب والخلْق بكل تفاصيله من ملائكة وجن وإنس وسماوات وأرض وشمس وقمر، ونظام الخلْق وعلاقاته بما فيه من السنن الربانية المتعلقة بحياة الأفراد والمجتمعات والأمم والحضارات، ونظام المعرفة وطرقها وأدواتها ومعاييرها ومنهجيتها والحيوات المختلفة الأطوار.
وأول معتقد يجب العناية به هو معرفة الله وتوحيده بالعبادة ثم بقية أركان الإيمان.
ومن أولويات التصورات الإيمانية التي يجب الاهتمام بها في هذا الإطار تأطير حياتنا بالوحي من كتاب وسنة، بما في ذلك التسليم للنص الشرعي وضرورة الاهتداء بالقرآن والإيمان بمرجعيته المطلقة.
ومن أولويات التصورات الإيمانية فهم السنن التي جعلها الله حاكمة لنظام العالم، ومن أمثلة هذه السنن: أنَّ الذنوب سبب للعقوبات الخاصة والعامة، وأنَّ الظلم موجب للانهيار الجمعي، وأنَّ الروح تتمزق إذا قطعت صلتها بالله، وأن ذكر الله وعبادته حياة للقلوب ورفعة للمجتمعات ونجاة من العقوبات، وأنَّ من يجتهد ويدأب يفوز ويظفر، وأن لكل نتيجة سبب، وأن لكل مظهر اجتماعي جذور تربوية، وهكذا دواليك.
وبغض النظر عن التوسع في ذلك أو اختصاره؛ فإنه من الملح جداً أن يكون كل (أو جل على الأقل) طلابنا المتخرجين في محاضننا لديهم الحد الأدنى الواجب من صفاء المعتقد وصحة التصورات الإيمانية.
وتكمن خطورة ذلك في ثلاثة أمور:
الأمر الأول: أنَّ بعض عناصر هذا المعتقد لا يصح إسلام الإنسان إلا بها.
الأمر الثاني: أنَّ هذه التصورات والاعتقادات مولدة لأعمال القلوب، والتي عليها مدار التعبد الحقيقي والقبول الرباني.
الأمر الثالث: أنَّ المعتقدات هي مصدر السلوك، فكلما صحَّت صح السلوك وكلما اعتلت اعتل السلوك، وهذا ما يفسر كثيراً من المظاهر الاجتماعية الحسنة والسيئة، وهذا ما يفسر – أيضاً – ردود أفعال المجتمع تجاه الحوادث والظواهر والأزمات.
ولتتحقق من ذلك فتأمل تأثير الأفكار الصوفية أو الأفكار الإرجائية في التعامل مع الحوادث والظواهر والأزمات، وتأمل تأثير الأفكار العدمية والعبثية في تفشي اللامبالاة واللا معنى، وتأمل تأثير تسرب الفكر النسوي على الحياة العملية والحياة الزوجية.. والقائمة تطول.
الاستقامة في السلوك
فتكون أعماله كلها داخلة في (العمل الصالح) أو نقول أنَّ أعماله ليست بآثمة ولا باطله ولا ظالمة، بل ولا خاسرة؛ إذا استدعينا لفظ الـ(حُسر) من سورة العصر.
وذلك يعني أنْ يتحلى بالورع عن المآثم والخوف من حساب الله تعالى والتيقظ عند المشتبهات.
ويعني وجود آلية ذاتية تقوم بتصحيح السلوك عند أي انحراف أو خطأ، وتدفع نحو التوبة المتكررة. (وأُزلفت الجنة للمتقين غير بعيد . هذا ما توعدون لكل أواب حفيظ . من خشي الرحمن بالغيب وجاء بقلب منيب . ادخلوها بسلام ذلك يوم الخلود)[ق:31-34]. أسأل الله لي ولكم من فضله.
كما يعني الالتزام بالواجبات وتحمل المسؤوليات نحو الله تعالى ونحو نفسه وأسرته ومجتمعه وأمته، قال صلى الله عليه وسلم: (إنَّ الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أنْ يتقنه)[1]. وقال صلى الله عليه وسلم: (كفى بالمرء إثماً أنْ يضيع من يقوت)[2].
ويعني المحافظة على أركان الإسلام الخمسة وعلى الفرائض عموماً، قال صلى الله عليه وسلم في الحديث القدسي: (ما تقرب إلي عبدي بشيء أحب إلي مما افترضت عليه)[3].
ومن أهم المسؤوليات الملقاة على عاتقه تجاه أسرته وذويه ومجتمعه: المحافظة على دينهم وأخلاقهم وأعراضهم، والدفاع عنها بالمال والنفس والجاه.
ومهما يكن؛ فإنَّ قدراً من مظاهر الاستقامة يجب أنْ يتحلى بها طلابنا وأبناؤنا، يتمثلونها في حلهم وترحالهم، في بلدانهم وحين يبتعثون إلى غير بلدانهم، في أسرهم ومجتمعاتهم وأعمالهم. إنها استحقاق للمجتمع المسلم من أبنائه.
الإيجابية في العلاقات
لا يستطيع الإنسان أنْ يعيش بمفرده بعيداً عن علاقةٍ بالناس والأرض والمخلوقات. والتربية الإسلامية نظمت هذه العلاقات، ولا شك، وإنما أشير إلى جانب رئيسي ينبغي أنْ يتمثل به من تربى على مائدة القرآن وشريعة الإسلام، ألا وهو الإيجابية.
وأقصد بالإيجابية هنا أنْ يتحرك الإنسان في دائرة العطاء الممكنة.
فيكون كريم اليد، ينفق ويتصدق، ويغيث الملهوف ويعطي المحتاج ويقري الضيف ويعين على نوائب الدهر ويواسي المكلوم.
ويكون متعدي النفع، فلا يقتصر همه على ذاته وإصلاح معاشه فحسب، بل ويتعدى ذلك إلى غيره من الناس فيساهم في إصلاح معاشهم وتنمية قدراتهم وتوجيه طاقاتهم نحو النافع من الأعمال.
ويكون ناشر علم وباعث وعي على من يليه من الناس، فهو بمثابة الضوء يلمع في بيته وفي مكتبه وفي مسجده وبين زملائه وأصحابه، وفي أي محيط يعيش فيه.
ويكون مسدِّد ثغرٍ ومصلح خطأ، حيثما كان، فله فضل في لم شمل أسرة وإصلاح ذات بين وتآخٍ بعد هجر، وله فضل في كف منحرف واستنقاذ عالم من زلته ومفتون من فتنته.
وهو آمر بالمعروف وناهٍ عن المنكر ما استطاع إلى ذلك سبيلاً.
وهو مجدٌّ في عمله، يخاف الله فيمن تولاهم في إدارته، يسوسهم بالرحمة والعدل والإحسان والتربية.. كل ذلك عطاء.
إنَّ الإيجابية في المُخرج التربوي تعني أنْ يكون طلابنا وأبناؤنا أرقاماً ذات قيمة عالية في المجتمع المسلم، فإن الله تعالى بعث محمداً بعثاً بعد موات وأنزل معه منهج التربية الإسلامية؛ أعني القرآن الكريم، ليكون باعثاً لنا بعد الموات، لنعيش عيشة العطاء والنفع والإيجابية (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)[الشورى:52].
لقد كانت السلبية والجمود وضعف الديناميكية وقلة التفاعل في نفوس المسلمين على مدار القرون الأخيرة الماضية من أهم عوامل سقوطنا في القاع واندثار معالمنا وغياب شمسنا، وقد آن الأوان لأنْ نبعث الناس من جديد ليقوموا بالدور الذي يريده الله تعالى منهم في الأرض، ولقد آن الأوان لأنْ نصنع الفعل بدلاً عن صناعة ردة الفعل، ولقد آن الأوان لأن نبذل ونبني ونعطي ونقدم.
ولو صار الشعور بواجب العطاء متجذراً في نفوس النشء الجديد، مهما كان حجم هذا الشعور؛ إذاً لتغيرت المعادلة.
الاعتدال في الشخصية
عن عون بن أبي جحيفة، عن أبيه، قال: آخى النبي صلى الله عليه وسلم بين سلمان، وأبي الدرداء، فزار سلمان أبا الدرداء، فرأى أم الدرداء متبذلة، فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أخوك أبو الدرداء ليس له حاجة في الدنيا، فجاء أبو الدرداء فصنع له طعاماً، فقال: كُل. قال: فإني صائم، قال: ما أنا بآكل حتى تأكل. قال: فأكَل، فلما كان الليل ذهب أبو الدرداء يقوم، قال: نم. فنام، ثم ذهب يقوم فقال: نم. فلما كان من آخر الليل قال سلمان: قم الآن. فصليا فقال له سلمان: إن لربك عليك حقاً، ولنفسك عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه. فأتى النبي صلى الله عليه وسلم، فذكر ذلك له، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (صدق سلمان)[4].
وهذا الأثر العجيب يبين لك بجلاء كيف ينظر الإسلام باعتدال وشمولية إلى بناء الشخصية، فهو لا ينظر إلى عناصر بناء الشخصية بوصفها مرتبة حسب الأهمية؛ فيكون التدين على رأس السلم ثم الجسد ثم العلاقات مثلاً، وإنما ينظر إلى عناصر بناء الشخصية بوصفها أركاناً لا يمكن الاستغناء عن أي واحدٍ منها في البناء، تماماً كالجزيء الكيميائي الذي تتكون منه المادة، فإن المادة تستحيل شيئاً آخر بفقدها لأي عنصر من عناصره.
والشخصية المعتدلة ثابتة الجنان، لا تهتز لكل حادث ولا تجزع عند الكوارث، وفي سيرها اطراد متدرج.
وهي شخصية متوازنة في علاقاتها، وفي سلوكها، وفي تدينها، فلا جفاء ولا غلو، لا إفراط ولا تفريط، تكتسب توازنها من نظرتها الشمولية للأشياء والأحداث والأشخاص، توازن بين الفردية والجماعية، وبين الإبداع والانقياد، وبين المبادرة والمشاورة.
وهي شخصية مستقلة النزعة، لديها بصمتها الخاصة بها في شؤون حياتها، تعرف قوتها وضعفها، وفرصها وتحدياتها، وتعرف ما يُصلحها وما يفسدها.
وهي شخصية سليمة التفكير، تنبذ الغوغائية وتحاكم الظواهر، ولا تستسلم للدعاية ولا تنقاد للسوق، تفحص الأدلة وتصنع القرار وتقف المعلومة.
وهي شخصية خلاقة تحمل نفسها على المروءة والشهامة، وتدين بالأخلاق الفاضلة، وتتنزه عن مساوئ الصفات وذميم الأخلاق.
هذا التكامل والشمول في بناء الشخصية هو بعينه هدف التربية الإسلامية، وإنَّ المخرج التربوي إذا توفرت فيه هذه السمة العظيمة، ولو في حدودها الدنيا، فسيكون مثار الإعجاب والفخر.
بل إنَّ التربية الإسلامية قادرة على تصحيح الانحرافات وتقليل الاضطرابات النفسية الناتجة عن مؤثرات سابقة، وفي القرآن والسنة شواهد على ذلك، منها قوله تعالى: (إن الإنسان خُلق هلوعاً . إذا مسه الخير منوعاً . وإذا مسه الشر جزوعاً . إلا المصلين) [المعارج:19-22] وما بعدها. ولهذا فنحن نستهدف إصلاح النفوس وأمراضها بذلك.
وهذه السمات الأربع: الصفاء في المعتقد والتصورات والاستقامة في السلوك والإيجابية في العلاقات والاعتدال في الشخصية هي أهم ما يراد توفره في مخرجنا التربوي. وأعتقد أنَّ واجب المحاضن التربوية أنْ تسعى إلى ذلك، بغض النظر عن تفاصيلها وحجم كل واحد منها.
[1] أخرجه أبو يعلى في مسنده (4386).
[2] أخرجه أبو داود (1692).
[3] أخرجه البخاري (6502).
[4] أخرجه البخاري (1968).