يقول الله جل شأنه: (وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نوراً نهدي به من نشاء من عبادنا وإنك لتهدي إلى صراط مستقيم)[الشورى: 52].
وصف الله عز وجل كتبه بأنه روح وبأنه نور.
فهو روح تبعث الحياة في نفس قارئه والمتمسك به والمهندي بإرشاده.
وهو نور يضيء له مسيره في طريق الحياة بكل ما فيها من مكونات.
أنت الآن أمام تجسيد لقوة فاعلية القرآن الكريم في بعث الناس وإطلاق طاقاتهم في الحياة.
القرآن الكريم كتاب لا يتماهى مع السلبية والقعود، والصدر الأول من هذه الأمة لم يعرف القعود مذ آمن وسمع كلام الله تعالى، لم يكن مجرد متلقٍ يستمع ليغرق في لجة الانعزال الرهباني أو ليحلِّق في فضاء التوجّد الصوفي، بل كان فاعلاً ومتفاعلاً ومبادراً في ضوء ما تعلمه من كتاب ربه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم.
بل حين أفكر في قوة الشرارة التي أطلقتهم في العمل والإيجابية أشعر بشيء من الانبهار، تخيل أنه بعد قرن من البعثة النبوية، أو قل: بعد قرن من نفخ الروح في هذه الأمة، وجدناهم يبنون القناطر على أنهار إسبانيا ويجاهدون القوط في سرقسطة ويُملون الحديث في تبريز.
قرنٌ من الزمان كان كافياً لأنْ تكون الكوفة والبصرة ودمشق والقيروان صروحَ علم ومعرفة، ومادة للجهاد والفتح الإسلامي في الثغور، وقد امتلأت هذه المدن بقبائل العرب الذين لم يألفوا الترحال والتنقل بين الأمصار قبل ذلك.
لقد كانت الشرارة عظيمة، إلى الدرجة التي عرَّب بها الفاتحون مصر والسودان وشمال إفريقيا وغربها، والعراق وبلاد الشام، فأصبحت بلداناً عربية، وإلى الدرجة التي رفعت فيها أعلام الإسلام بالقرب من القسطنطينية وجنوب فرنسا وعلى تخوم أذربيجان، وقد كانوا من قبل غاية اهتمام السيد الكبير فيهم حفنة من العبيد والإماء وحفنة من المال ومجلساً في عشيرته يصدِّرونه فيه.
لقد غادر كثير من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم المدينة متجهين إلى مختلف الأمصار فاتحين ومجاهدين ومعلمين وعمالاً، وكان الواحد منهم يستلم مهمته وينطلق لا يلوي على شيء، متخطياً حاجز المسافات والقفار والمفاوز وتغير أنماط الحياة واختلاف اللغات وقلة ذات اليد. يقول أبو موسى الأشعري لأهل البصرة: (بعثني أمير المؤمنين إليكم لأعلمكم كتاب ربكم ولأصلح لكم طرقاتكم). مهام تستهدف ورجال يمتطون ظهور رواحلهم إلى ذلك المكان البعيد.
لا وجود عند أولئك للسلبية والقعود.
أي روح وأي وهج كانت تحمله الأمة في الصدر من زمانها!
الحركة والتفاعل والمبادرة سمات اصلية أولية في جيل يبعثه القرآن وينفخ فيه الروح وينير له الطريق.
نحن بحاجة إلى إعادة الإيجابية في الأجيال الناشئة، ليكونوا فاعلين مؤثرين، ولبناء أمة فاعلة ومؤثرة، انظر كيف كان النبي صلى الله عليه وسلم يندب اصحابه إلى كل ما يمكن أنْ يدخلهم في هذه الدائرة، عن سعيد بن أبي بردة، عن أبيه، عن جده، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (على كل مسلم صدقة) فقالوا: يا نبي الله، فمن لم يجد؟ قال: (يعمل بيده، فينفع نفسه ويتصدق) قالوا: فإنْ لم يجد؟ قال: (يعين ذا الحاجة الملهوف) قالوا: فإنْ لم يجد؟ قال: (فليعمل بالمعروف، وليمسك عن الشر، فإنها له صدقة)[أخرجه البخاري 1445].
وفي حديث آخر له دلالته العميقة في كون المسلم لا ينفك عن العطاء، حتى ولو كان في أوقات عصيبة تذهله عن كل شيء إلا نفسه، عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إنْ قامت على أحدكم القيامة، وفي يده فسيلة فليغرسها)[أخرجه أحمد 12902].
وهنا أشير إلى عدد من الأمور:
- الأصل في الطالب أن يكون متلقياً وفاعلاً، وليس متلقياً فقط، فثمة عدد من القيم والمفاهيم لا يمكن غرسها والتربية عليها إلا في حال فعله وتفاعله ومبادرته، ومن ذلك الفاضلة.
- لدينا فرصة في هذا الزمن لفتح نوافذ الفعل لدى الطلاب، حيث توافر المعارف وتوافر العلاقات وتوافر الأشياء، وسرعة التواصل، وعليه الاختيار والعمل.
- للمربي دور مهم في توجيه الطالب نحو ما هو أفضل بالنسبة إليه، أعني بالنسبة إلى الطالب، وذلك عبر تقنيات اختيار التخصص المناسب وتحديد نمط الشخصية ونحوهما مما يفيد كثيراً في التوجيه الأمثل للطلاب.
- التوجيه الذي يشارك المربي فيه كافة التفاصيل مع الطالب هو تحكم وسيطرة، وهو التفاف على الفعل وتحويله إلى تلقي.
- المبادرة والفعل والتفاعل والإنجاز لا تعني بالضرورة التصدر والشهرة، فتلك شيء وهذان شيء آخر منفصل عن الأول، والمطلوب في هذا الإطار تربية الطلاب على الإيجابية والمبادرة لا على التصدر والشهرة. بالتأكيد هذا لا يعني إلغاء الأول لوجود الثاني.
- ضرورة مراجعة المربين لمفهوم الاستشارة وموقعه الصحيح من المبادرات، وفي قصة الهدهد مع نبي الله سليمان عليه السلام هداية للمتجردين عن حظوظ النفس ولمن رزقهم الله حسن النظر في كتابه، فالاستشارة لا تعني إحكام السيطرة على جميع التفاصيل.
- الفعل والعمل والمبادرة لا تعني بالضرورة الأعمال الخطابية والدعوية المعروفة اليوم، لكنها تعني الأعمال النافعة سواء على مستوى الفرد أو على مستوى المجتمع. وهو باب فقه كبير، يدخل فيه الإحسان إلى أهل الحاجة إلى الإحسان، وتنمية المجتمع ونشر العلوم والمعارف ومعالجة الأمراض البدنية والاجتماعية، وغيرها.
القرآن الكريم نزل ليبعث الناس، لا ليزيدهم مواتاً. والمحاضن التربوية التي تهتدي بالقرآن ينبغي أنْ تكون مواطن الولادة من جديد ونافخة للأرواح الميتة والمريضة والمنهكة.