في تقلب الليل والنهار وحركة الكون ما جعله الله تعالى دليلاً على أفعاله في الناس وسنته في الحياة (يقلب الله الليل والنهار إن في ذلك لعبرة لأولي الأبصار).
ولقد كانت المسيرة الدعوية التي انتهجها سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في مكة محفوفة بالمخاطر مجللة بالابتلاءات، منذ اللحظة الأولى، منذ أن التقى رسول السماء برسول الأرض، حين غطه غطة شديدة قائلاً له: (اقرأ باسم ربك الذي خلق). لكنها لم تنهزم أمام كل ذلك، فبدل الله ليلها نهاراً.
منذ تلك اللحظة وسيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يعاني آلام المسيرة الدعوية، من تكذيب الناس له، ونشر الدعاية السوء عنه (كاذب، ساحر، مجنون، صابئ، طالب رئاسة، معلَّم،… إلخ)، ثم تطور الحال إلى بث الشبه ومسائل الإنكار للبعث ونزول القرآن وإرسال النبي صلى الله عليه وسلم، وتطور الحال إلى التعذيب المباشر للفتية والفتيات والرجال والنساء الذين آمنوا بالدعوة الجديدة، ثم تطور الحال إلى الحرمان مما يتمتع به سائر الناس في مجتمعهم في البيع والشراء والعلاقات، ثم تطور الحال إلى إلجائهم إلى السفر والهجرة إلى ما وراء البحر؛ إلى ديار غير ديارهم وناس ليسوا من جنسهم، ثم تطور إلى الحصار الظالم في الشعب لمدة ثلاث سنوات.
قال ابن القيم في زاد المعاد 3/25:
(وفشا الإسلام، فلما رأتْ قريشٌ أمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلو والأمور تتزايد أجمعوا على أنْ يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب وبني عبد مناف: أنْ لا يبايعوهم، ولا يناكحوهم، ولا يكلموهم، ولا يجالسوهم، حتى يسلموا إليهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكتبوا بذلك صحيفة وعلقوها في سقف الكعبة، فانحاز بنو هاشم وبنو المطلب مؤمنهم وكافرهم إلا أبا لهب؛ فإنه ظاهر قريشاً على رسول الله صلى الله عليه وسلم وبني هاشم وبني المطلب.
وحُبس رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن معه في الشعب شعب أبي طالب ليلة هلال المحرم سنة سبع من البعثة، وعُلقت الصحيفة في جوف الكعبة، وبقوا محبوسين ومحصورين مضيَّقاً عليهم جداً، مقطوعاً عنهم الميرة والمادة نحو ثلاث سنين، حتى بلغهم الجهد وسُمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب.
وكانت قريش في ذلك بين راض وكاره، فسعى في نقض الصحيفة مَن كان كارهاً لها، وكان القائم بذلك هشام بن عمرو بن الحارث بن حبيب بن نصر بن مالك؛ مشى في ذلك إلى المطعم بن عدي وجماعةٍ من قريش فأجابوه إلى ذلك، ثم أطلع الله رسوله على أمر صحيفتهم، وأنه أرسل عليها الأرضة فأكلت جميع ما فيها من جور وقطيعة وظلم إلا ذكر الله عز وجل، فأخبر بذلك عمه، فخرج إلى قريش فأخبرهم أنَّ ابن أخيه قد قال كذا وكذا، فإنْ كان كاذباً خلينا بينكم وبينه، وإنْ كان صادقاً رجعتم عن قطيعتنا وظلمنا، قالوا: قد أنصفت، فأنزلوا الصحيفة).
وفقاً لهذه السرد، فإنَّ حصار الشعب كان استراتيجية لجأت إليها قريش في مواجهة المدَّ المتدفق للإسلام: (فلما رأت قريشٌ أمْر رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلو والأمور تتزايد أجمعوا على أنْ يتعاقدوا على بني هاشم وبني المطلب وبني عبد مناف)، وكانت هذه الاستراتيجية في غاية الشراسة إذ تحمل المقاطعة التامة بما في ذلك الغذاء والدواء والكساء والتراحم والتداول، وبشكل دائم غير مؤقت، وما هي مكة حينها إنْ حدثت فيها مقاطعة!
وقد أوغل حصار الشعب في أهله، وكان شديد البلاء عليهم حيث (بقوا محبوسين ومحصورين مضيَّقاً عليهم جداً، مقطوعاً عنهم الميرة والمادة نحو ثلاث سنين، حتى بلغهم الجهد وسُمع أصوات صبيانهم بالبكاء من وراء الشعب). كانت مشاهد الإضناء والجوع والمرض والعنت محل رضا لدى المتآمرين الذين علقوا الصحيفة في سقف الكعبة: الخطة تسير وفق المرسوم، كان بياض الفجر يتراءى لهم، فتنفرج له أساريرهم، ويترقبون شروقاً لا إسلام فيه، وصباحاً لا محمد فيه، يترقبون نتيجة المؤامرة وهدف الخطة المحكمة. ثلاث سنوات كفيلة بأنْ تجعل أيَّ قرشي – وربما أي عربي أيضاً – لا يقدم على قرار كهذا؛ أعني: اتِّباع محمد صلى الله عليه وسلم.
نحن الآن في السنة العاشرة من البعثة، والتي بلغ فيها الابتلاء مبلغه. في تلك الأثناء ومن على قمة المؤامرة: نُقضت الصحيفة وانتهى الحصار.
لاحظ أمرين:
الأول: أنَّ هذا الابتلاء الشديد كان نتيجة انتشار للإسلام وغلبة الدعوة الجديدة. هذا يقتضي أنَّ العداوة الشديدة لا تعني دائماً ضعف الإسلام وانهزامه، الصراخ لا يعني أنَّ الحق لم يقل كلمته.
الثاني: أنَّ تمكُّن الباطل من الإيقاع بأهل الحق، وانتفاشه وطغيانه عليهم لا يعدو أنْ يكون فجراً كاذباً، يعقبه – بوقت يسير – فجرٌ صادق بإذن الله، الذي يقلب الليل والنهار، فجر يستطيل نوره ثم يستطير على الأرجاء، فجر حقيقي تعلو فيه كلمة الله، ويظهر للناس مقدار الإثم الذي حاكه أهل الباطل.
ففي كلا الأمرين تجد الإسلام يتقدم ويعلو ويزداد ويكثر والحمد لله. ولذلك نزل في تلك الأيام قوله تعالى: (إنَّ الذي فرض عليك القرآن لرادك إلى معاد).
غير أنَّ ابن القيم عقَّب على هذه الحكاية فقال: (فلما رأوا الأمر كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه وسلم [يقصد أن الصحيفة تلفت] ازدادوا كفراً إلى كفرهم). وقال: (فلما نُقضت الصحيفة وافق موتَ أبي طالب وموت خديجة، وبينهما يسير، فاشتد البلاء على رسول الله صلى الله عليه وسلم من سفهاء قومه، وتجرءوا عليه فكاشفوه بالأذى).
وهنا تلاحظ أمرين آخرين:
أولهما: أنَّ عداوة أهل الباطل لم تتوقف، لم يستسلموا، فازدادوا كفراً وعدواناً، حتى بعد انكشاف باطلهم وظلمهم، وبعد الصبر العظيم من أهل الحق، وتفريج الله لهم.
ثانيهما: أنَّ أهل الحق لا يسلمون من الابتلاء، ففي الوقت الذي نقضت فيه الصحيفة يموت ركنان كان سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم يستند إليهما في حياته: أبو طالب وخديجة.
وكأن ذلك اختصار في وصف حياة الرسل وأتباعهم وورثتهم العلماء والمبلغين عنه والداعين إلى دعوته: أنهم مبتلون بصنوف الأذى والمعاناة، وأنهم تُخلَص نفوسهم للمقامات الرفيعة في الجنة.
وبعد، فهذه ذكرى من سيرة سيدنا وحبيبنا صلى الله عليه وسلم، جعلها الله تعالى سلوة لأهل الإيمان وبشرى لأهل الدعوة بأنَّ الدين لا يُغلب إذا قاموا به أهله، وأنَّ الله يصطفي من عباده من يرفعهم لتلك المقامات في الجنة.