أحد الأصدقاء رفض الدخول في مفاضلة على ترقيته في وظيفته التي طال مكثه فيها، ذلك لأنَّ الترقية تستلزم انتقاله من مدينته التي يسكن فيها إلى مدينة أخرى، وهي قريبة، إلا إنه آثر البقاء في وظيفته والبقاء في مدينته، والسبب في هذا القرار هو وجود والدته الكبيرة معه في بيته المتواضع، وحين علمت الوالدة بفرصة الترقية أبدت اعتراضها لأنها ألِفته، فهو الذي يقدم لها في بكرة النهار فطورها وعلاجها، وهو الذي لا ينام حتى تكون هي آخر عهده بالناس، وهو الذي ينظم لها ذهابها إلى المستشفيات، ولأنها أمه فهو يذهب بها دائماً إلى المستشفيات الخاصة، التي تكلفه المبالغ المالية رغم قلة ذات اليد.
وكان أكبر تهديد له من والدته إنْ هو انتقل: أنْ تسكن عند أخته!
وفي الواقع هو لا ينوي الانتقال التام، وإنما يريد الترقية في المدينة الأخرى ثم محاولة الرجوع إلى مدينته الأصلية.
وهذا الموقف ذكرني بأحد الإخوة توفرت له وظيفة ممتازة في مدينة أخرى بعيدة عن المدينة التي يسكن فيها هو ووالداه الكبيران، وكان من مميزات هذه الوظيفة زيادة المرتب المالي والسكن المجاني، فلما حان موعد استلام الوظيفة الجديدة طلب منه والده عدم استلامها وبقاءه عنده، فاعتبر طلب والده أمراً، وبقي في مكانه، احتساباً لوجه الله تعالى، وطمعاً في بركة بر والديه، رغم حاجته إلى الانتقال وإلى الوظيفة الجديدة.
وأتذكر ثالثاً وهو من المشتغلين بالدعوة إلى الله، وقد عُرض عليه إدارة مؤسستين ربحيتين في وقت واحد، فيها نفع للمسلمين، وله مع إدارتهما نسبة أرباح في كل مشروع يُنفذ، يقول: “فتأملت، فخفت أنْ أتحول إلى رجل أعمال بعد أنْ كنت رجل دعوة، وخفت أنْ يكون المال هو أهم شيء في حياتي!”. فآثر البقاء على طريقته المتدرجة في العمل الدعوي مع محدودية الدخل المالي، على الدخول في عالم المال والأعمال.
وهذه المواقف المفصلية في حياة هؤلاء الثلاثة تشترك في استعلاء القيم والمبادئ على المادة في نفوسهم، وعلى نوازع حب المال والمراتب الوظيفية.
استوقفني استعلاؤهم على أمور يتهافت عليها كثيرون من أبناء الدنيا، وعليها يختصمون ويتهاجرون، ومن خلالها يصنفون ويقيمون الأشخاص.
هؤلاء لا أحد يعرف أسماءهم، ولم يلتق بهم مذيعوا البرامج الحوارية، ولم تكرِّمهم الهيئات الإنسانية، ولم تعوِّضهم الجهات المانحة.
هؤلاء لديهم غرائز مثل الآخرين، ونوازع مثل الآخرين، وتقف في وجوههم تحديات الحياة المادية مثل الآخرين كذلك، لكنهم يقدسون القيم ويعظمون المبادئ ويلتمسون البركة من الله.
والبركة شيء معنوي، لا يرتبط بالأرقام بالضرورة، ولا بالكم، لكنه يرتبط باطمئنان القلب وسكينة الروح وقناعة النفس وقضاء الحاجات وتفريج الهموم.
والإسلام يربي أهله على هذه المعاني العظيمة، التي تقف فيها النفس شامخة، واضعة قدمها على عنق المادة، وتنظر إليها من فوق، ولا تنهزم أمام مغرياتها، لأن هذه المغريات في حقيقة الأمر صغيرة وحقيرة، يسميها القرآن: “متاع” فحسب.
ونحن اليوم بحاجة إلى هذا المعنى العظيم، معنى استعلاء القيم على المادة، والذي يظهر في اتخاذ القرارات الحياتية المختلفة.