الحمد لله. هذا حوار نفذه الإخوة والأخوات في مشروع يقظة فكر يوم السبت 5 جمادى الأولى 1443هـ.، وأشكرهم على الاستضافة وإتاحة الفرصة، وقد نقحته واستأذنتهم في نشره، وهو عبارة عن رأي ووجهة نظر قابلة للتعديل والتصويب، وأرجو أن يكون فيه فائدة:
س: مؤخرًا لقد حُبِبَتِ الكتابةُ إلى القلوب، وازداد نِتاجُ أصحابها وإن لم يكن في المجالات العلمية والتربوية ذات القيمة، إلا أن الغزارة الملحوظة تضعنا في حَيرةِ التساؤل: ألهذه الدرجة الكتابة يسيرة، أو أصبحت أدواتها في متناول الجميع، حتى أصبح الأغلب كُتّابًا؟! أم أن هنالك أدوات قبلية للكتابة، تجعل الكاتب يحط الحبر مطمئنًا على السطر الأول في الورقة؟
ج: أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أنَّ من أشراط الساعة ظهور القلم، وفي رواية: فشوّ القلم. والحديث أخرجه البخاري في الأدب المفرد وصححه الألباني. فانتشار الكتابة واستسهالها واحد من صور ظهور القلم وفشوه. وإذا جمعت هذه العلامة مع علامة أخرى أخبر النبي صلى الله عليه وسلم عنها وهي: انتشار الجهل فسيظهر لك معنى مهم وهو القدرة على الكتابة مع الجهل، أي يتعلم الناس القراءة والكتابة ويقل فيهم علم الدين وآدابه، وعند ذلك تظهر الكتابات الفاسدة، والكتابات التافهة، والكتابات المتعالمة، كما هو واقع اليوم، والنتيجة الطبيعية هي غزارة الإنتاج الكتابي في الساحة سواء كانت جيدة أو غير جيدة (وهذا أكثر). هذا تفسير بعض ما يحدث اليوم.
وأمر آخر مهم، في ظل وجود الصحف والمجلات واختراع المطابع، تحول جزء من الكتابة إلى فن من الفنون، وبهذا التحول أصبحت الكتابة هدفاً يسعى إليه فئام من الناس لتذوق الجمال وتغذية الوجدان، دون النظر إلى حجم الفائدة الحقيقية على أرض الواقع، لأن الفن في حد ذاته هو فائدة وهدف وفقاً للثقافة الغربية التي أفرزت هذا المفهوم، فمجرد أن الإنسان أشغل جزءاً من وقته بالكتابة فهو يعيش حالة فنية، وبمجرد أن يقرأ الإنسان كلاماً يتفاعل معه وجدانياً فهو يعيش حالة فنية، كصناعة السينما والموسيقا والتفاعل معهما. فانتشار السينما والموسيقا والتصوير والكتابة المطلقة والقراءة المطلقة تأتي في سياق فني؛ بهذا التوصيف.
وكان الكاتب في السابق لا يكتب إلا بعد استخارة واستشارة غالباً، وكثيرون لم ينشروا إلا بعدما طُلب منهم ذلك ودُفعوا إليه، بخلاف ما عليه جملة من الكتاب اليوم من المسارعة إلى الكتابة والنشر دون مشورة ولا طلب ولا استخارة، بل ودون تأهّل حقيقي.
والتأهل الحقيقي هو خليط من المعرفة الجيدة، وبعض القدرات الكتابية مثل التأمل والتحليل والتلخيص، واللغة الثرية التي يملكها الكاتب، وهذه الأخيرة هي استعداد ذاتي يُسقى بالقراءة والسماع الجيدَين.
لا بد من:
- قراءات رأسية (معمقة) وأفقية (كثيرة).
- نقاشات علمية وثقافية مع الآخرين.
- تلخيصات كتب، وعمل أبحاث خاصة ليست للنشر.
- تجارب قصيرة ومعاناة المسائل.
بعد ذلك الانطلاق الآفاقي، والتطوير في نفس الوقت، وسؤال الله الدائم البركة والنفع.
مداخلة: ما الفرق بين القراءة الأفقية والقراءة الرأسية التي ذكرتها؟ وهل من كتب تنصح بقراءتها؟
ج: القراءة الرأسية المعمقة: أن تكون (على الأقل: جزء من) قراءاتك فيها التحليل والاستنتاج والتقصي لأطراف الموضوع في كتب وعلوم أخرى. والقراءة الأفقية: أن يكون لك قراءة كثيرة في الكتب، سواء تعمقت أم لم تفعل.
وبالنسبة للنصيحة بالكتب فتختلف، لكن كتب ابن القيم مهمة جداً، وكذلك كتب التفسير وشروح الأحاديث. والأهم أن تبدأ بالقراءة وتستمر ولا تقف أبداً.
س: بعضُ شبابنا – حفظهم الله – إذا ما منَّ الله عليه بحيازة أدوات الكتابة من نحوٍ وغيره، فإذا به يسارع في مضمارها في زمن تحصيله، فلا هو الذي كتب كما ينبغي، ولا هو الذي حصَّلَ ما يرتجي، ويتذبذب بين عظيمين (طلب العلم والتدوين له)، فكيف السبيل للموازنة؟ ومتى برأيكم يصبح العطاء الكتابي واجبًا، وهل من سنٍ معيّنة تحكم هذا العطاء؟
ج: كثيراً ما أكرر: المعاني من المعاناة. أي أن المعاني تولد من رحم المعاناة.
الكتابة عمل شاق ومسؤولية، وكشف لمخبوء النفس من مفاهيم ومعارف وتصورات، فالذي يكتب وليس لديه مخزون علمي ومفاهيمي إنما يُظهر للناس جهله وقصوره، والناس حين يقرأون لأحد فهم يقرأون ما كتبه ويقرأون أيضاً شخصية الكاتب، فأي قبح أن يظهر الإنسان جهله وعواره بعد أن ستره الله!
الكتابة ليست هدفاً نسعى إليه، بل وسيلة من وسائل الخير، وهذه الوسيلة ربما تكون سهلة وفي متناول يد طائفة من الناس وربما تكون صعبة المنال لدى طائفة أخرى؛ لا عيباً فيهم، ولكن القدرات موزعة على البشر، فلعل لدى هذه الطائفة من القدرات ما لا يملكه الكتاب، والواجب أن يتعرفوا على قدراتهم وإمكاناتهم ويبدعوا فيها، والنبي r قال: (كل ميسر لما خلق له).
وكثير من الكتاب إذا تحدث لم يُبن عن مراده كما يفعل في الكتابة، وكثير من المتحدثين لا يعرفون الكتابة، وهناك أشخاص يميلون نحو التحليل والدراسة والتلخيص بينما آخرون لا يجدون أنفسهم إلا في التعامل مع الأمور عبر الواقع والتنفيذ لا الدراسة والتحليل.
فلا داعي للقلق أو الشعور بالنقص.
وبالنسبة لطالب العلم والشاب وقت التحصيل، هناك نوع من الكتابة يناسبه، وهو الكتابة التحصيلية أو التصنيف التحصيلي، وهو وسيلة علمية متبعة منذ القدم، وذلك بأن يكتب التلخيصات على الكتب التي يقرؤها ويحرر مسائل بحثية متعلقة بالعلم الذي يحصله ونحو ذلك، وهذه التلخيصات والتعليقات والأبحاث ليست للنشر، هي خاصة به، يتعلم من خلالها العلم الذي يحصله ويدرب قلمه على الكتابة والتحرير والتلخيص والمناقشة. ولا ينبغي أن ينشغل الطالب بالكتابة بغرض النشر لأنه يفوت على نفسه ما هو أهم منها بألف مرة: العلم. إلا أن يكتب يومياته الخاصة وبشكل موجز، أو خواطره كذلك وبشكل موجز.
أما الوقت الذي يجب أن يكتب فيه فهو إذا توجب عليه إظهار علم ما، من باب التعليم وبث الوعي وحفظ العلم والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فتكون الكتابة وسيلة إلى ذلك.
س: نحنُ الآن في زمن تسارع المعلومات، وانهيالها على المتلقي دون تصنيفٍ وأرشفة، وفي وسط هذه المعمعة قد يجد الكاتب نفسه ميّالًا للكتابة في أكثر من مجال… فمن منطلق رؤيتكم لمَ يجب على الكاتب تحديد مجاله الكتابي؟ وكيف السبيل لهذا التحديد؟
ج: قبل الإجابة أود أن ألفت الانتباه إلى أهمية الفصل بين مسألتين: الكتابة والنشر. وعليه فيمكن القول التالي: ابدأ الكتابة وأخّر النشر. لأن الكتابة هي الموهبة وهي الإبداع وهي النفع.
ثم لا أعرف لماذا يصعب على الكاتب تحديد اتجاهه الكتابي؟!
إذا كانت الكتابة رسالة ووسيلة فهذا السؤال لا يبدو واقعياً، لأنه سينطلق في الكتابة لتحقيق هذه الرسالة وللوصول إلى هدف ما في ذهنه.
الكاتب الجيد هو الذي يمسك القلم لأن وجدانه يتفاعل مع ما حوله فيتخذ من الكتابة وسيلة للإسهام في تحسين وتنمية وتصحيح واقع الأمور التي تفاعل معها وجدانه. الكتابة الجيدة لا تنبع من فراغ وجدان، وإنما تنبع من غليان الوجدان، فبالتالي لا يحتاج إلى تحديد.
نعم، ربما يحتاج إلى اكتشاف معلم أو إشارة ناصح فحسب.. ولكن يبقى الإنسان ذاته هو المفصل في الموضوع.
نعم، قد ينجرف الإنسان في موضة كتابية معيّنة دون أن يشعر، فهنا يحتاج إلى أنْ يتواضع ويعرض على معلميه وإخوانه أفكاره ويستنصحهم، ويراقب نفسه كذلك لئلا يكون قلمه ألعوبة بيد المتنفعين الكبار الذين صنعوا الموضة الكتابية.
س: إذا ما لاحظنا فسنجد أن الأغلب يكتب لأنه وجد في نفسهِ هذهِ الهِبة، أو يكتب لأنه يعتبر الكتابة تنفيسًا عن نفسه، أو لأنه يريد للعالم أن يقاسمه حزنه أو حبه إلخ، وأقل القليل من تجده يقول: “أنا أكتب لأجل الناس وسد حاجاتهم!”. فكيف يمكن للكاتب الموازنة بين رغبته في التعبير والكتابة، وبين حاجة الناس إلى ما يكتب؟
ج: تحويل الكتابة إلى رسالة سامية – وليس لوناً فنياً – هو ما يجعل الكاتب يعيش الاتزان.
إذا كانت الكتابة رسالة، فسينظر الكاتب إلى الأمرين معاً، فتنتج خلطة خاصة هي الانطلاق من قدراته وإمكاناته إلى احتياجات الناس. أما التنفيس عن النفس فهو حاصل في كل الحالات، يعني هو تحصيل حاصل لا يحتاج أن يكون هدفاً، إلا أن يكون حالة فنية.
والكاتب المسلم لا يهدر إمكاناته من أجل ترفيه النفس، وإنما يسخرها من أجل البناء واكتساب الأجر من الله.
الكتابة شيء عظيم لا تهدر في التوافه، والقلم هو أول شيء أقسم الله به في القرآن، حين قال: (ن . والقلم وما يسطرون).
س: الكتابةُ مشروعُ بناءٍ، فيجب أن تكون لَبناتُ هذا البناء صحيحة، والأفكار هي أول اللبنات، فالأفكار السقيمة الفاسدة لن تأتي إلا بمشروعٍ مثلها، وعلى العكس! وعليهِ فكيف يمكن للكاتب تطوير نموه الفكري في ظل الواردات الكثيرة؟
ج: الحل هو القراءة النافعة، لا سيما القراءة للأفذاذ الذين يثرون القارئ معاني ومفردات، وطلب العلم والاستمرار في التعلم المفيد. لا سبيل غير ذلك. طلب العلم هو الذي يبني التصورات ويصحح المفاهيم والأفكار ويطور المعارف والعلوم.
ومِن حِفظ العلم اليوم أن تحفظ عقلك من قراءة أي شيء أو الاطلاع على أي شيء، فكل شيء تقرؤه أو تشاهده يدخل المجال العقلي ويتخذ فيه مكاناً، وبالتالي أنصح بالإقلال والانتقاء في المتابعات والمشاهدات ولو كانت في ذاتها مفيدة. لأن المكتبة اليوم تضم مئات الكتب التي ليس لها وظيفة سوى إمتاع القارئ وإكسابه نشوة القراءة وإخراجه من جو الواقع الذي يعيشه، وفي المكتبة اليوم عشرات أو مئات الكتب المبنية على أسس فكرية هشة أو دخيلة أو باطلة؛ فقراءتها تزيد الإنسان جهلاً وتخلفاً. اختر مقروءاتك بعناية بالغة.
كما أن دعاء الله الدائم أن يبارك قلمك وينفع برقمك سيبلغ بك فوق ما تحب.
س: يقال إن ما من كاتبٍ إلا وقد كان قارئًا يومًا ما، فما مدى تلازمية القراءة للكتابة؟ وهل لتطور الأمر ارتباط بالبيئة الأُسرية وتنشئتها للطفل أم الأمر وما فيهِ ميولٌ مقسومةٌ؟
ج: بالنسبة للجزء الأول من السؤال: قطعاً بينهما تلازم وتناسب مطرد. والكاتب الذي يحترم القراء يعتني بذلك.
في الجزء الثاني: البيت والأم والتنشئة تؤثر في نماء القدرات اللغوية والميل نحو الكتابة وتثقيف الولد.. إذا كان التأثير إيجابياً فأنت أمام مشروع كاتب، لكن يتم هذا – إذا تم – بشكل غير مقصود يعني بشكل عفوي، فمثلاً إذا كانت الأم قارئة وكاتبة أو مؤلفة، ولديها اهتمام بالتربية العلمية لأولادها مثلاً. فيتكون استعداد الولد للكتابة، ويبقى عليه التزود المعرفي والعلمي والتجربة. فهنا أمران: القدرات والمادة العلمية، فالأولى تستطيع الأم التأثير فيها بإذن الله، والثانية مسؤولية من يكتب تحديداً، وليس لمن حوله إلا التحفيز والمساعدة.
س: الكتابةُ شرفٌ ومسؤولية؛ وعليهِ فما نصائحك المعينة للكاتب كي يتقلد هذا الشرف عن جدارة، ويحمل مسؤولية أمته بكل وعي، وهل بنظركم هنالك موضوعات بذاتها يفترض على الكاتب أن يتوجه لها ويناقشها؟
ج: يبدو لي أن الإجابة على هذا السؤال سبقت في الإجابات الماضية.
أما الموضوعات التي يفترض أن يتوجه الكاتب للمشاركة فيها هي ما يحسنه ويجيده، اكتب فيما تحسن.
س: إن وجد في الكاتب كل ما ينبغي أن يتواجد فيه، من أدوات ومعايير، فإنَّا نجده يواجه معضلة كبيرة ألا وهي: قلة نتاجه الفكري، وذلك لتعلله بقلة الوقت…. فكيف يمكن للكاتب أن يكون مُكثِرًا من نِتاجِهِ الفكري؟ وكيف له أن يتخلص من الوهم العائق “قلة الوقت”؟
ج: هنا ثلاث مسائل:
الأولى – من وجهة نظري – أنه ينطبق على الكتابة اليوم القول المأثور: من كثر كلامه كثر سقطه. فلا أُفضل الإكثار والمسارعة، لأن قليل العلم إذا نفع بارك الله فيه وكثّره.
الثانية: الكاتب كسائر البشر له حاجات وعليه التزامات نحو نفسه وبيته ومجتمعه، قد تشغله، فيصير ما هو فيه: ازدحامُ واجبات، وهنا لا بد من إعمال الموازنة وترتيب الوقت وإدارته بشكل جيد. وليست الكتابة – في أصلها – للترويح عن الناس فنطالب الكُتاب بالحضور المكثف في الساحة الكتابية.
الثالثة: الكتابة جزء من التعليم وبث الوعي، أي هي جزء من الرسالة، والمهم أن نقدم رسالة التعليم وبث الوعي بالكتابة وبغيرها. كما يمكن عمل الشراكة في الكتابة بين اثنين أو أكثر.
س: لعل الرغبة بالتميز هي ما تقود الكاتب لابتداع ما لم يوجد قط، والتأليف في مواضيع وافدة جديدة على ثقافتنا الإسلامية، وكل هذا في سبيل التفرد ومواكبة الحداثة، فيفرح الكاتب بابتداعه، وهو في واقع الأمر لم يقدم شيئاً لأمته ولا لنفسه، فكيف للكاتب أن يضبط قلمه وتوجهاته؟ وهل العناية بالعلوم الجديدة وغرائبها ابتداع وابتعاد عن منبع العلم ورأسه، أم أن الحفاظ على ديدن العلوم السابقة تقليد أعمى لا يُجدي ولا يفي بتقلبات العصر؟
ج: ضبط الكتابة ينبع من ضبط الرسالة ومعرفة الإنسان قدره وأهميته على الأرض في هذه الحياة، فالإنسان مكلف أن يكون له تأثير إيجابي في حياته، سواء بالكتابة أو بغيرها، فهذا الشعور وهذا التعريف الذاتي يضبط مسيرة الإنسان في كل شؤونها، وليس فقط في الكتابة، هذا مهم جداً. وهذه النقطة هي التي صنعت الإبداع في كتابات القوم. فمثلاً إذا تأملت كتاب الرسالة للشافعي أو الطبقات لابن سعد من السلف أو مجموع مؤلفات ورسائل السعدي أو الرافعي من المعاصرين فستجد إبداعهم نتج عن معاني نفسية عميقة وشعور ذاتي رائع.
ما يتعلق بالعلوم السابقة والعلوم الجديدة، لم أعرف ما المقصود بها تحديداً لأن في السابق وفي هذا العصر توجد علوم صحيحة وعلوم فاسدة.
مداخلة: ما الميزان الذي تنصح به للتعامل مع الماجريات؟ وما القضايا التي لا يصح تجاهلها؟ وما القضايا التي تدخل ضمن الماجريات والتي يفضل التغافل عنها؟
ج: كثير من ماجريات اليوم.. أعِرضْ عنها. فإنها مصممَة لإبعادك عن أهدافك ونقاط قوتك. واهتم بما يتصل – بشكل مباشر وفعال – بقضيتك ورسالتك. وراجع هذه المسألة بين فترة وأخرى.

س: البعضُ سبحان الله، يَغرسُ في نفسه هاجس الكتابة، وتراه يُصّر ثم يُصّر على هاجس نفسه، فتراه بعد مدة لم يجنِ إلا الخيبة، حيث وقد أهدر نفسه فيما هو من الأساس ليس أهلُهُ، فيكون قد ضيّعَ الوقت والجهد وأمل النفس في الوجهة الخاطئة! فكيف للواحد منا أن يكتشف أنه كاتبٌ حقّ، وكيف يستطيع أن ينمي مقدرتهُ الكتابية؟ وهل للكتابةِ أهلها أم أن الجميع بمقدورهم أن يصبحوا كُتّابًا إذا ما بذلوا؟!
ج: الشطر الأول صحيح ومهم، وأود أن يؤخذ بعين الاعتبار والاعتناء، وقد قالوا:
إذا لم تستطع شيئاً فدعه وجاوزه إلى ما تستطيعُ.
ويكتشف الكاتب نفسه من خلال الميل نحو الكتابة، المشاركات الصغيرة جيدة اللغة كما يحصل الآن في حسابات التواصل الاجتماعي، سيولة القلم، دفتر الخواطر الخاص ونحو ذلك.
وربما يكتشفه معلم حاذق أو أخ ناصح، فبعض المعلمين يدفع طلابه نحو الأعمال المختلفة، فيقفهم على باب الموهبة، بعد توفيق الله تعالى.
وأهم ما ينمي الكاتب مقدرته الكتابية بكثرة القراءة الفاحصة والتعلم الجيد، ودوام الكتابة المحررة. ولا أعني بدوامها كثرة الكتابة وإنما أعني ألا ينقطع عنها يعني لا ينقطع عن القلم ولو لم يحرر في يومه إلا القليل، وأيضاً الكتابة المحررة ليس منها الكتابة التافهة أو المغلوطة.
والكتابة ليست لكل الناس، بل لها فئة معينة تناسب شخصياتهم وميولهم. ولكن يغلب على القَرَّاء أن يكون لديه مقدرة كتابية، لتوفر العناصر الثلاثة: المعرفة الجيدة والثروة اللغوية والنَفَس الكتابي.
س: من الكُتّاب من يطمحون لتغيير الواقع، ومعالجة قضايا قد تشكل حساسية لدى القارئ عند التعريض بنقد بعض العادات والتقاليد، أو الحديث عن المرأة وقضاياها التي ابتدعوها…أو كذلك نقد الأفكار الغربية الوافدة، التي يأخذها العوام محمل حسن النيّة وينتقدون من يحللها لجذورها الأوليّة التي في أصلها تهدم العقيدة! فكيف السبيل لمعالجة القضايا التي تشكل حساسية لدى القارئ، وهل يجب اتباع أسلوب كتابي معيّن كالحوار والقصة لتحصيل نتائج أفضل؟
ج: نحن مأمورون شريعة بأن نتبع الحق ولو خالف أهواءنا وأن نرجع إليه إذا تبين لنا بعد خطئنا، ومأمورون بالعدل في كل شيء، ومأمورون بحسن الخلق. وهذه ثلاثة آداب واجبة في معالجة القضايا الفكرية التي هي محل خلاف ونقاش.
ومن ثم، فإن على الكاتب لكي يعالج قضية فكرية عليه أن يرجع إلى الأصول المعصومة التي هي حق كلها، نصوص الوحي من كتاب الله وسنة ورسوله صلى الله عليه وسلم، فيكون الوحي هو المرجع العلمي الذي ينطلق منه للوصول إلى الحق، ثم عليه أن ينصف من يخالفه فلا يبغي عليه ولا يظلمه ولا يفتري عليه وأن يعرف ما هو فيه من حق كما يعرف ما هو فيه من باطل؛ فيفصل بين الأمرين، والله تعالى لما ذكر معايب أهل الكتاب قال: (ليسوا سواء). ثم عليه أن يعرض حججه وبراهينه وفكرته في ثوب جميل، وألا يدنسه بالتقذيع والتهكم والسخرية، فذلك من حسن الخلق وأقرب إلى الإقناع والإفهام.
وبمطالعة الأطروحات الفكرية الحالية المتعلقة بقضايا المرأة والأسرة رأيت أن من أهم الأمور التي نشأ منها الخلل في المعالجات لهذه الموضوعات: الانطلاق في التأصيل من خارج القرآن الكريم، فهو يستعمل للاستدلال على الفكرة فقط. والضعف في فقه المحكمات وأصول المسائل، وهذا يظهر في انفصال الجزئي عن الكلي أو انتقاص الكلي بالجزئي. والجهل بمنشأ الانحراف في هذه القضايا والفرق بين وصفها قبل الاستعمار وبعده.
والقارئ المخالف لنا – وكذا الكاتب المخالف لنا – ربما يخالفنا لأن لديه شبهة، وربما يخالفنا بتأويل باطل يعتقده حقاً، ومثل هذا يناقش ويحاور ويبين له وتنقض شبهته بعلم وعدل وحُسن خلق. بخلاف المغرض وصاحب الهوى.
أما تفضيل أساليب كتابية دون غيرها فهذا غير ممكن، فكل أسلوب له وقته، وله أربابه، وله قراؤه أيضاً، وليست العبرة هنا، العبرة أن يكون لك هدف كتابي واضح، وأن تفكر في طريقة الوصول إلى هذا الهدف ما وسعك، ولا يكلف الله نفساً إلا وسعها وما آتاها.
س: بماذا تنصح شخصاً بدأ في الكتابة منذ طفولته، وبلغ عقده الثلاثين ولم ينشر له شيء؟ كيف يطور من نفسه؟ وكيف يحسن من قلمه؟ وما الأمور التي يحملها الكاتب عند تدوينه أي عمل له؟ وما المعيار لمعرفة ما يجب نشره مما تكتب؟ وكيف يكون طابعه الخاص الذي يميزه عن سائر الكتاب؟
إضافة إلى ما سبق؛ أنصحه بعمل مدونة على (ووردبرس) خطوة أولى في النشر، ولكن عليه أن يعي أن العبرة بمداومتها وجودة فكرها، وليس بعدد القراء.
النشر المحدود يتيح ردود الأفعال، والردود فيها إيقاظ الكاتب لمواطن الخلل ونقاط الجودة، فيحسن كتابته وهكذا يكون التفاعل كالكيمياء. وفيها حفظ لأعماله أيضاً.
ولا أرى الاهتمام بالتميز (والتميز ليس الجودة) أو العلامة الفارقة.. المهم أن هناك كتابة نافعة، فكرة في الاتجاه الصحيح، ونحو ذلك..
قد نتوهم أن الجودة مرتبطة بالتقعر والتزويق. الجودة مرتبطة بالحق الذي تضمنته الكتابة، والعلم الموجود فيها. والرسل عليهم الصلاة والسلام كانت رسالاتهم واضحة لجميع الشرائح والفئات لأنها سهلة مفهومة.
س: أستاذ فايز كنتَ قد تحدثتَ عن التلخيص التحصيلي والملخصات التي يقوم بها طالب العلم وأنها تكون لنفسه وليست للنشر.. عندما كنت طالبة وذلك بزمن ليس ببعيد، كنت إذا كتبت شيء أجهزه للنشر حسب طلب من يدرسون معي أو بطلب من الدكتور نفسه! وكان يتم اعتمادها كمرجع للطلاب الذين بنفس دفعتي أو من تبعنا من الدفع التالية. كما أني أرى أن الكتابة التحصيلية والتي كما تفضلت بالحديث عنها أنها كتابة التلخيصات في الكتب مهارة لا يجيدها الجميع!! ونشري بها يعتبر مساعدة لهم كما أن زكاة العلم تبليغه. فهل هذا يعتبر نوع من التعجل بالنشر، رغم أن جميع ما نشرته كان قد تمت مراجعته من دكاترة المواد نفسها!
ج: لا. هذا ليس من التعجل. أولاً لديكم قدرة جيدة. ثانياً تم النشر بمشورة أهلُ علم. ثالثاً تم النشر في نطاق محدود. وهذي فرصة جيدة لتنمية مهارات الكتابة.
انتهى الحوار، ومن الله التوفيق..